عبد الناصر حنفى
أعتقد أن خطورة محنة 1905 المسرحية التي أسفرت عنها ندوة (همزة وصل) المقامة على هامش ما يسمى بمهرجان المسرح العربي؛ لا تكمن فقط في تدليس هذا التاريخ عمدا وفرضه علينا بوصفه بداية المسرح المصري، ولا في حذف مجمل الحركة المسرحية الثرية التي شهدها القرن التاسع عشر من تاريخنا، فكل هذه أمور ستعود إلى نصابها إن آجلا أم عاجلا بغض النظر عما تسببه وستسببه من جراح أو نزاعات وتطاولات شوفينية ممن يفترض أنهم اشقاء.
أما مكمن الخطورة الفعلية لهذه المحنة فهو ذلك الصمت المريب وغير المفهوم لكافة المؤسسات والكيانات المسرحية والأكاديمية والاعلامية؛ وللغالبية الساحقة من اساتذتنا ورموزنا وكوادرنا ومثقفينا وصحفيينا .. الخ؛ والذين اكتفوا بإبداء الامتعاض في الكواليس والجلسات الخاصة، وكأنهم يغسلون ضمائرهم من ذنب الاتهام بالتواطؤ في جرم يعرفون جيدا شدة بشاعته.
وأنا قد أتفهم صمت من يقع عليه ظلم لا يستطيع له دفعا، بينما الامر هنا لا يتعلق في جوهره سوى بشأن مسرحي أو ثقافي وارد فيه المعارضة والاختلاف حتى وإن افترضنا أنه يتم جبرا تحت ظل ذهب المعز وسيفه، وهو افتراض غير حقيقي، فهذه المحنة ولدت من نكاح محرم بين شطحات (انتقامية) ونزوات (أوديبية)
فمن جهة لدينا شطحة مراهقة لاكاديمي مصري يرى في التاريخ بضاعته التي يمتلكها ملكية خاصة ويسوءه أن أحدا لم يتفاعل بجدية مع دعوته لاستئصال يعقوب صنوع من تاريخ المسرح المصري رغم كل ما كتبه في هذا الصدد طوال العشرين عاما الماضية، ولذلك لك أن تتخيل مشاعره الاورجازمية وهو يستئصل قرنا كاملا بصورة فعلية من هذا التاريخ دون أن يكتب حرفا واحدا.
ومن جهة أخرى لدينا نزوات أوديبية لأكاديمي سوداني وافد إلى الامارات وهو فيما يبدو رجل ضيق الأفق ومنعدم الوعي السياسي وكل ثروته في الحياة تكمن في وضعيته الاستثنائية بوصفه طفل بلاط مدلل، والتي نالها بفضل صداقة قديمة لم تجعله مضطرا لتطوير وعيه غير الناضج الذي لا يفرق بين نفوره أو انزعاجه المختزن من (مناكفات) بعض الأفراد المصريين وبين أن يقوم هو بنغز تاريخ المسرح المصري، فالنشوة الاوديبية عند الاطفال تعلو وتبلغ درجة لا يمكن مقاومة إغوائها كلما كانت صورة الأب أكثر جلالا.
ولنلاحظ أنهم قد أعلنوا أن اللجنة العلمية (المصرية )المكلفة بتنظيم الندوة الفكرية (همزة وصل) قد وضعت برنامجها -الذي لم يكن ليثير أي ضجة أو خلاف – وتم إقراره بصورة نهائية في إبريل الماضي، وهو ما يعني أن محنتنا لم يكن مخططا لها مسبقا، إلا أنه بعد أقل من اسبوع تغير كل شيء إثر تلاقي المراهق الأكاديمي بالطفل الأوديبي العجوز؛ وهو ما نتج عنه في النهاية تعثرنا -جميعا- في محنة 1905.
وإذا كنا لم نعي بعد ما أصبحنا في خضمه، فإنني أخشى أن ثمة آخرين يراقبون ويدرسون ويحللون ما نمر به في اهتمام شديد، ويتساءلون إذا كان هذا العبث التافه والمفتقر للذكاء قد أحدث بهم كل هذا، فماذا عن تلاعب أكثر احكاما يمتاز بالدقة والصبر في تحديد أهدافه والسعي إليها؟
أجل، إن الخطورة الحقيقية لمحنة 1905 أنها تقدم نفسها لكل من يهمه الأمر بوصفها لعبة قابلة للتوسع والتكرار سواء في المسرح أو خارجه.
..
تحديث:
الجملة الأخيرة حملت تلميحا كنت أظنه واضحا لدرجة كافية بحيث لا يستدعي أي مقارنات غير مطلوبة حاليا طالما ظل هناك أمل أن هذه المحنة قد تنتهي بشكل أفضل مما بدأت به، لكن النقاش مع بعض الاصدقاء أقنعني أن ثمة حاجة لإضفاء مزيد من التوضيح على هذه النقطة.
جميعنا عاصر عاصفة الهوس الجمعي التي اجتاحت المنطقة في 2009 نتيجة لأحداث تافهة جرت في الفترة الفاصلة بين مباراتي مصر والجزائر في إطار تصفيات كأس العالم، بحيث أننا بين عشية وضحاها تحولنا (جميعا) إلى مجرد مؤدين (مخلصين) في عرض (قضية ظل الحمار) والذي جرى تقديمه فوق خشية تكاد تشمل جغرافية المنطقة كلها، وبرغم أننا جميعا نسينا كل ما يتعلق بهذه الأزمة فور أن هدأت موجات الهوس، إلا أن جهات كثيرة -داخلية وخارجية- عكفت على تحليل هذه الفترة لاكتشاف كيف يمكن لتلك الخفة التافهة أن تحرك هذا الأجساد الاجتماعية المفرطة الثقل، بحيث أن الأعوام التالية شهدت تطبيقات لنتائج هذا التحليل، وعلى سبيل المثال: الخطاب الاعلامي الحالي (مدرسة أحمد موسى ورفاقه!) لا يمكن إرجاعه تماما لا إلى الاعلام الناصري ولا إلى أي نظرية أو تجربة إعلامية أخرى، فهو يستمد مفاهيمه وشرعيته مما تم استخلاصه عبر تحليل أزمة 2009.
ومع محنة 1905 لدينا صيغة مشابهة: الخفة التافهة التي تصيب جسدا ثقيلا (المسرح المصري) فتصيبه بالعجز (مقابل الهياج الذي احدثته ازمة 2009) …
وأعتقد أنه لا حاجة -الآن على الأقل- لمزيد من المقارنة.