
نعمان عاشور.. والناس (اللي فوق واللي تحت)
استطاع عاشور أن ينجز قبل وفاته ( حملة تفوت ولا شعب يموت)، وهي المسرحية الوحيدة التي لم تر النور حتى الآن من أعماله على المسرح.
بقلم: عيد عبدالحليم
نعمان عاشور (1918 ـ 1987) أحد الكبار في تاريخ المسرح العربي الحديث، وصاحب النقلة النوعية في طريقة تقديم وخلق شكل مسرحي يتناسب مع الوضع الإجتماعي للجمهور، ويتماس مع قضاياه وتحولاته بلغة مسرحية يتضافر فيها البعدالإنساني مع إحكام الصياغة.
عاش للمسرح، فاختار لسيرته الذاتيه عنوانا دالا هو (المسرح حياتي)، ظل شغوفا به منذ طفولته المرفهة ـوهو ابن الطبقة البرجوازيه ـ الذي آمن في شبابه بالفكر الإشتراكي وتأثربأفكار د. محمد مندور.
قال ذات يوم: (الحب الفطري للطوائف العادية وجموع الناس من أبناء الشعب .. وهذا الركون الدائم إليهم بوصفهم أجدر الناس بالعشرة.. كان أرسخ ما نضج في كياني منذ الصغر، ولهذا فما إن داخلتني فكرة الإشتراكية ومبادئها حتى إنسابت إلى كل كياني).
كانت مسرحية (الناس إللي تحت) لحظة فارقة دقت فيها أجراس البداية لمسرح مصري خالص بعد أن عاش المسرح لسنوات طويلة يقتات من التجارب الغربية والإقتباسات التاريخية التي جاءت بلا أقنعة أو ظلال تلقى على الواقع في لحظته الآنية،فكانت (الناس إللي تحت) أول مسرحية تتغلغل في تربة القضية الإجتماعيةلتناقش بجرأة ـ مشاكل الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة، بلغة تحمل قدرا كبيرا من السخرية والكوميديا اللاذعة.
وربما جاءت المسرحية لتعكس التحولات الإجتماعية العاصفة بعد ثورة 1952.وقد قدمت المسرحية لأول مرة فرقة المسرح الحر التي كان نعمان عاشور مؤلفها الأول عام 1956 من إخراج الراحل كمال ياسين.
كتب نعمان عاشور خمسة عشر نصا مسرحيا بداية من (المغناطيس) عام 1951 مرورا بـ(الناس إللي تحت) 1956، تم (الناس إللي فوق) 1957، و(عيلة الدوغري) 1963،و(برج المدابغ) 1974، و( إثر حادث أليم) 1985، و( وابور الطحين) و(بلاد برة)و()بحلم يا مصري) و(صنف الحريم). بالإضافة إلى عدة مسرحيات تنتمي إلى مسرحيات الفصل الواحد لعل من أشهرها (عفاريت الجبانة) التي كتبها إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وفي هذه المسرحيات وغيرها ظهرت قدرة (نعمان عاشور) على قراءة التاريخ القديم جيدا، بالإضافةإلى قراءته الواعية للحظة المعايشة، مما منحه زخما في الرؤية جعل مسرحه يخرج من حالة (الدراما التاريخية) إلى (التأريخ بالدراما) بمعنى أنه اتخذ من التاريخ قناعا لعرض القضايا اللخطية.
وهنا تكمن الفضاءات المتعددة لثقافته الموسوعية التي اتسمت بالرحابة نظرا لغزارةروافدها المعرفية. وربما هذا ما جعل الناقد فاروق عبدالقادر يقول عنه: (لقداستطاع نعمان للمرة الأولى بهذه الثنائية أن يجمع الناس حول خشبة المسرح،تدب فوقها شخصيات من لحم ودم، تصطرع حول هموم وقضايا حية وساخنة).
وهذا أيضا ما أشار إليه أحمد بهاء الدين في مقال له بجريدة روز اليوسف عن مسرحية (المغناطيس) قائلا: (أما عن مسرحية المغناطيس نفسها فهي مسرحية جيدةوالذين يطلبون في مصر اليوم مسرحا كالمسرح الفرنسي مثلا ليسوا جادين فالمسرح عندنا الآن يبدأ من نقطة الصفر بعد أن مضت على مجده سنوات محت أثره من نفوس الناس وهو لذلك أحوج إلى النقد الدافع إلى الأمام).
وبهاء الدين لا يدافع عن المسرحية بقدر ما يجعل أهميتها كبداية لإحياء الحركة المسرحية بغض النظر عن قيمتها الفنية.
وكتب الكاتب الصحفي محمد زكي عبدالقادر في يومياته بالأخبار عن نفس المسرحيةقائلا (الشخصيات التي ظهرت في المغناطيس كلها شخصيات موجودة في الحياةتصرفت على المسرح كما تتصرف في الحياة، وهي شخصيات خفيفة الظل، رقيقةالحركة، وادعة التفكير، متمردة على القديم، ولم أجد رصاصا ولا ثقلا ولاصراخا، ولكن وجدت قطعة من الحياة العادية منقولة على المسرح، سحرها فيصدقها وتأثيرها المنبعث من آلامها وآمالها).
وربما هذا أيضا ما أشار إليه (نعمان عاشور) في سيرته الذاتيه حين وصف عمله المسرحي بأنه يؤرخ للتطور الإجتماعي يرصده ويسجله ويرسم خطوط مساره)، وذلك في معرض حديثه عن مسرحيتيه (الناس إللي فوق) و(الناس إللي تحت).
ومن الملاحظ أن )نعمان عاشور) كان مغرما بالجبرتي كمؤرخ وكحاله إنسانيةمنفردة، فقد كان أول كتاب قرأه في مكتبة جده وهو لم يزل طفلا صغيرا هو(تاريخ الجبرتي)، وقد حاول أكثر من مرة الكتابة عنه بشكل درامي ومنها محاولته في أول الستينيات لتقديم مسلسل إذاعي عنه مدته نصف ساعة، وفي هذايقول: وذات يوم لاقيت المرحوم عبدالوهاب يوسف وكان أيامها يشرف على برامج التمثيليات بالإذاعة فلما أخبرته بأني أقرأ كتاب الجبرتي فطلب مني كتابة حلقة درامية عنه مدتها نصف ساعة، كنت أيامها شغوفا بالجبرتي لأني حصلت من أحد أقاربي على كتبه الأربعة في مجلدين صادرين من مطبعة بولاق العتيقة، وهي تلك التي توجد في مكتبة جدى وقرأتها وأنا مازلت طفلا، وأدرجت التمثيلية ضمن البرامج الخاصة وأخرجت وأذيعت وكانت ناجحة).
ومع ذلك كانت تطلعات (عاشور) نحو تقديم (الجبرتي) كشخصية درامية متعددة الأبعادأكبر من تقديمها في حلقة إذاعية، لذلك ظل يراوده الحلم في تقديمه على خشبة المسرح، حتى آخر لحظة مسرحياته.
وبالفعل استطاع أن ينجزقبل وفاته بأيام نصه المسرحي (حملة تفوت ولا شعب يموت)، وهي المسرحيةالوحيدة التي لم تر النور حتى الآن من أعمال (نعمان) على المسرح.
والمسرحيةليست كما يبدو من عنوانها تأريخا للحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1801)قدر ما هي نفاذ إلى أعماق الحالة الإجتماعية والعلاقات بين أبناء الشعبالمصري في تلك الفترة الفاصلة من تاريخ مصر الحديث.
ميدل ايست أونلاين
2012-08-30