
من أين للدراما هذه الأموال؟
منذ أن بدأ الإرسال التليفزيوني عام 1960 وقدم التليفزيون العربي التمثيلية الأولى مسجلة على الشريط رقم (1) بعنوان (جهاز المعلم شحاتة) والتي تبدو من عنوانها تمثيلية اجتماعية معاصرة.. استغرق عرضها ست عشرة دقيقة، والدراما التليفزيونية تحتل مكانة كبيرة وأهمية عظمى على شاشة التليفزيون المصري والعربي.. ليس لأنها تقدم حكاية مسلية بها ما بها من أحداث ومضامين شأنها شأن الفيلم السينمائي فحسب , وإنما لأنها تقدم مسلسلة.. مما يجعل المشاهد مرتبطاً بشكل يومي بالشاشة الصغيرة في الموعد ذاته ليستأنف متابعته للحدث الذي توقف بالأمس مشوقاً لمعرفة «ماذا بعد» ذلك التساؤل الذي يجب أن تخلقه وتنميه أية حكاية أو «حدوتة» تروي بنجاح في عقل المتفرج أو المستمع للحكاية منذ أن أبقت شهرزاد شهريار ألف ليلة وليلة منتظراً الـ «ماذا بعد» مؤجلاً قتلها وحتى الآن.
ومنذ نهاية السبعينيات تقريباً بدأ التليفزيون المصري يخص شهر رمضان بعرض مسلسلاته المميزة والتي تعلق بعقل ووجدان المشاهد لفترة طويلة ولا زلنا نذكر (المشربية)، و(رحلة هادئة) و(وقال البحر) و(توالت الأحداث عاصفة) و(هند والدكتور نعمان) و(عائلة شلش) ثم توالى الإنتاج بشكل أكثر تركيزاً فظهرت لأول مرة المسلسلات ذات الأجزاء المتعددة (الشهد والدموع) و(رحلة المليون) و(رحلة السيد أبو العلا البشري) و(ليالي الحلمية) وغيرها.
لم نكن نسمع وقتها عن نجوم كبار يتقاضون الملايين ولا مسلسل بلغت ميزانيته المئة مليون ولا ميزانية مسلسلات لموسم واحد تبلغ المليار ونصف المليار.. ثم نفتش عن القيمة الحقيقية وراء هذه الدراما فنخرج صفر اليدين، برغم التقدم التقني الكبير وعدد الكتّاب الهائل والممثلين الذين لا حصر لهم من كل صوب وحدب كبارا كانوا أو مبتدئين، ولم نكن نشنف آذاننا بوصلات الردح المبتكرة في غالبية مسلسلاتنا والشر المجاني الذي يتفنن كتّابنا في حياكته والمط والتطويل الذي أصبح آفة مسلسلاتنا نتيجة عدد الساعات الملزم بها صناع المسلسل كرهاً فيخرج المسلسل في ثلاثين أو خمس وثلاثين حلقة، بينما طاقته الإبداعية يمكن تكثيفها في سباعية أو خمس عشرة حلقة على الأكثر كما كانت المسلسلات تقدم سابقاً.
عن رمضان هذا العام 2012 والذي أطل علينا في ظروف استثنائية للغاية حيث أزمة اقتصادية طاحنة تمر بها مصر، وتوتر عام في الوسط الفني من صعود التيار الإسلامي للحكم، وتأثيره ربما السلبي على المخرجات الإبداعية وتكهنات من هنا وإشاعات من هناك وشكوى متواصلة من منتجي المسلسلات من عدم توافر السيولة النقدية، حتى أن بعض الكتّاب والمخرجين والنجوم ادعوا أنهم يعملون مع شركات إنتاج (على النوتة) أو (على ما تفرج).. فقد بلغت ميزانية إنتاج مسلسلات هذا الموسم حسب الأرقام التي تناقلتها وسائل الإعلام بمختلف أنواعها ما بين مليار ومئتي جنيه وفي روايات أخرى مليار ونصف المليار، وهو في كلتا الحالتين رقم هائل لا يمكن فهمه أو تحليله في ظل الظروف التي تمر بها البلاد فضلاً عن المستوى الرديء الذي خرجت به علينا غالبية المسلسلات اللهم إلا استثناءات بسيطة لا يمكن اعتبارها ظاهرة في الجودة يعول عليها.
حفل هذا الموسم بما يقرب من سبعين مسلسلاً وتأجل حوالي اثني عشر مسلسلاً بسبب الظروف المادية وعدم القدرة على إنهاء أو (تقفيل) المسلسل ليلحق بركب العرض المتخم والصراع والمنافسة.
وبدأت أرقام حول ميزانية المسلسلات تتناثر هنا وهناك فـ(فرقة ناجي عطالله) بلغت ميزانيته سبعين مليوناً حصل منها عادل إمام وحده على خمسة وأربعين مليوناً وقد تأجل إتمام تصوير المسلسل عامين كاملين للظروف السياسية والاقتصادية، وجاء (خطوط حمراء) لأحمد السقا بالمرتبة الثانية بميزانية 42 مليون جنيه، يليه (الخواجة عبد القادر) بطولة يحيى الفخراني بميزانية تبلغ أربعين مليوناً، ثم (الهروب) بطولة كريم عبد العزيز بميزانية ستة وثلاثين مليوناً، ثم (مع سبق الإصرار) بطولة غادة عبد الرازق بميزانية تبلغ خمسة وثلاثين مليوناً، و(نابليون والمحروسة) بميزانية خمسة وثلاثين مليوناً.. وتتوالى المسلسلات وأرقام ميزانياتها الضخمة والتي لم تقل بأي حال من الأحوال عن خمسة وعشرين مليون جنيه.
يقول الدكتور(ضياء الدين جابر) المدرس بقسم الإنتاج بالمعهد العالي للسينما ومدير إنتاج لعدد من الأعمال التي عرضت هذا الموسم.. إن القنوات الفضائية هي صاحبة اليد الطولى في هذه المسألة، هي التي تشتري وهي التي تساهم في الإنتاج بناء على النجم الذي يقوم ببطولة العمل ومدى فاعلية تسويقه.. وبناء عليه يعهد إلى بعض الجهات أو شركات الإنتاج بالتنفيذ.
ويؤكد أن هذه الأرقام بها الكثير من المبالغة وبالتحديد هذ الموسم، إذ إننا شاهدنا غالبية نجوم السينما )السقا( و)كريم عبد العزيز( و)محمد سعد( و)عادل إمام( و)غادة عادل( جميعهم هربوا من السينما التي تعاني انكماشاً ملحوظاً.
والكارثة أن مسألة أجور الفنانين المبالغ فيها تلك تبدأ بكذبة ثم يصدقونها فيما بعد فعندما يصرح منتج بأن ممثلاً ناشئاً تقاضى مليوني جنيه عن دوره في أحد المسلسلات بينما الحقيقة أنه لم يتقاض خمس هذا المبلغ يتحول هذا الرقم لحقيقة يصدقها الممثل والمنتج وهنا تبدأ المشاكل.
وهذه الظاهرة ليست بالجديدة ولكنها تفاقمت مؤخراً.. حتى أن هذا الأمر حدث مع الممثلين العرب الذين يشاركون في المسلسلات المصرية، إذ يبالغ المنتجون في إعلان الأرقام التي يتقاضاها هؤلاء الممثلون حتى يصدق الممثل أنها واقع ويبدأ في فرض شروط جديدة مجحفة على أي عمل جديد يدعى له.
ويعلق الدكتور ضياء على ما يشاع من أن الدراما المصرية تنتج بأموال خليجية بأن هذا الأمر وإن كان موجوداً في فترة ما إلا أنه انحسر تقريباً هذه الأيام؛ إذ إن التمويل الخليجي قد توجه بشكل شبه كامل للمسلسلات السورية والتركية لما تتميز به غالبيتها من جودة للنص وإبهار في الصورة وانخفاض في التكاليف فضلاً عن انصراف المشاهد العربي عن المسلسل المصري واتجاهه للمسلسلات التركية والسورية لعدم ثقته في جودة المسلسل المصري حتى لو كان جيداً بالفعل.
الناقد (كمال رمزي) يرى أن المسلسلات شأنها شأن الأفلام السينمائية من السلع الفريدة وربما الوحيدة التي تستخدم عدة مرات جغرافياً وتاريخياً، فهي تباع لأكثر من جهة أي لأكثر من قناة داخل البلاد وخارجها ويعاد عرضها العام تلو الآخر، ولا تغطى تكاليف إنتاجها فحسب وإنما تدر أرباحاً وهذا التوسع في الكم جاء نتيجة انكماش السينما الذي حاولت المسلسلات تعويضه فحدث ازدهار في الصورة التليفزيونية وخرجت الكاميرات للشوارع والميادين والأماكن المفتوحة.. والناقد كمال رمزي يرى الصورة بشكل إيجابي إذ إن هذا الكم المحلي الكبير هذا العام – عكس ما يقال عن تدني مستواه – قد اتسم بالتنوع والجودة ليتمكن المشاهد من الاختيار من مائدة عامرة ما يشاء، فثمة الاجتماعي مثل «البلطجي» و«طرف تالت» والبوليسي «رقم مجهول» و«سر علني» والكوميدي «فرقة ناجي عطالله» و«الزوجة الرابعة» والتاريخي «نابليون والمحروسة »، وغيرها فضلاً عن أن هذا الكم ساهم في انحسار مد المسلسلات التركية التي يعتبرها مبهرة وسخيفة في الوقت ذاته.
والحقيقة الواضحة وضوح الشمس أياً كانت الآراء والتكهنات سلباً أو إيجاباً فإنه لا يخفى على عاقل أننا نعاني غموضاً شديداً وانعداماً للشفافية في ملابسات وظروف إنتاج المسلسلات المصرية بل وحتى الأفلام السينمائية، ولا زال المواطن المصري البسيط المطحون تحت أعباء الحياه التي تمزقه لا يدري هل إنتاج هذا الكم من المسلسلات بهذه الميزانيات الضخمة وهذه الأجور الخيالية هو اجتزاز من لحمه الحي ؟ أم أموال مجهولة المصدر يتم تدويرها فوق رأسه وتحت سمعه وبصره؟ أم أن هناك رواجاً مأمولاً في رحم الغيب ينتظره، خاصة عندما يخرج عليه داعية إسلامي كان مرشحاً محتملاً لرئاسة الجمهورية يطلب إلغاء إنتاج المسلسلات وتحويل الملايين التي تنفق عليها إلى مشروعات نافعة يستفيد منها الناس على اعتبار أن هذه الصناعة بلا فائدة ولا تمثل سوى إهدار لأموال الناس دون أن يعي كونها صناعة كبرى يعمل بها الآلاف ويمكنها أن تكون أحد أعمدة الاقتصاد المصري الراسخة.
سناء هاشم – مصر
المصدر : مجلة الدوحة