
شكسبير
المنتج التليفزيونى أصبح اليوم مصدرا لعديد من الأخطار بعيدة المدى من خلال القيم والأفكار التى يروج لها فى مسلسلاته ومسرحياته التى يغرق مشاهد التلفزيون فيها حتى اصبح عالم التلفزيون منفصلا تماما عن الإنسان العربى بكل ما يعانيه من مشاكل وضغوط على كل المستويات ..
والطبع فالتسلية والترفيه هى الوجه الآخر البرىء لكل محاولات التسطيح التى يلجأ إليها المنتج التلفزيونى الذى يقدم سلعته بهدف واحد ووحيد وهو تحقيق الربح .
وأيضا بالطبع لا يمكن إلقاء اللوم على المنتج التلفزيونى وحده .. فهو أولا وأخيرا فى ظل الإنتاج الحر والاقتصاد الحر والفكر الحر لابد وان يحقق الربح المادى .. ولو كان ذلك على حساب كل القيم .. وأية قيم ..
واللوم الذى ينصب عـادة على رأس المنتج التلفزيونى الجشع الذى يضحى بكل شىء فى سبيل ارتفاع رصيده فى البنوك يجب أيضا أن يمتد ليشمل الرقابة وكل العناصر المشاركة فى خلق المناخ الذى ينمو فيه الإنتاج التلفزيونى المريض بدءا من الكاتب إلى الممثل والناقد والمثقف وأيضا رجل الاقتصاد اللص والسياسى المناضل من خلف كؤوس الخمر مطالبا بمناصرة العامل والفلاح والذى لا يعرف أن الجميع يعرفون حقيقة أهدافه و .. أرباحه..
ومن النوع الأخير الذى لا يجب أن يختفى طويلا خلف مظهر الكلمات البراقة ذلك المثقف الذى يقع فى فخ المنتج التلفزيونى .. ورغم كل البراءة والنضال والكفاح ونصرة الشعب العامل فإن حقيقة تفوق قلة من المثقفين على دهاء وذكاء المنتج الخاص لا يجب أن تغيب طويلا عن الأذهان لكى تكون الصورة أوضح لأن الجميع باختصار يساهمون فى خلق المناخ الذى يعانى منه الإنسان العربى …وبالتالى فصك البراءة لا يجب أن يمنح للمثقف المتلاعب بالكلمات .. والحركات وحده .. بل يجب أن تشمل الإدانة الجميع ..
مـن هذا النوع الخطير من المثقفين من استطاع بيع الهواء لأحد المنتجين وانقلبت الآية ، وبدلا من أن يخدع المنتج الكاتب والممثل، خدع الكاتب المنتج حتى صار ذلك مثلا ..
جاء المنتج وبكل صفاء النية بسبب حداثة عهده بالإنتاج التلفزيونى وقرر أن يساهم فى تغيير وجه البرامج التلفزيونية من خلال المسرحيات الجادة العالمية التى يفتقدها المشاهد بعـد طغيان الهزليات الفارغة .. وبالفعل نجح فى تقديم مسرحيات موليير بعد أخطاء التجربة التى فرضها المنطق التجارى السائد رغم حرص المنتج على تقديم مشروع مشرف ومفيد ..
عيون الأدب
ولذلك لجأ فى تجربته الثانية إلى بعض المثقفين الذين أدركوا نوع الحلم فباعوا الشمس للمنتج …قدمـوا لـه مشروعـا يحتـوى على اكثـر مـن مائة مسرحية من عيون الأدب العالمى الكفيلة بخلق حالة وعى عـام بين المشاهدين فى حالة عرضهـا على الشاشـة .. هذا إذا عرضت .. وقـد تعرض لأسـباب عـديـدة : سياسية واجتماعية ودينية وإنتاجية ..
ورغم انهم أول من يعلم باستحالة خروج مثل هذه المسرحيات إلى النور إلا أنهم استطاعوا إقناع المنتج المسكين الذى بدأ يدفع بسخاء فى سبيل تحقيق حلمه ، خاصة وأنهم نجحوا أيضا فى إقناعه بإمكانية إجراء التعديلات اللازمة على النصوص حتى يمكن تمريرها على الرقابة والمشترى ..
ومع الوعود الكثيرة ، والأحلام الكبيرة استسلم المنتج بعض الشىء وإن لازمه بعض الشـك الذى سرعـان ما تغلبـوا عليـه بصدمة عقل المنتج باسـم شكسبير الذى ستكون أعماله باكورة إنتاج المشروع الكبير ..
وبالطبع استسلم المنتج تماماً بفضل سحر اسم شكسبير وحتى لا يتهم بالجهل .. و .. بدأ الإعداد .. وانسابت الأموال إلى الجيوب ..
الغريب أن المنتج المسكين المبهور باسم شكسبير وبكلمات المثقفين البراقة لم يدرك لحظة واحدة أبعاد الفخ الذى يستدرج إليه .. فوافق بسذاجة على إجراء تعديلات على نصوص شكسبير أو بمعنى آخر إجراء إعداد لمسرحيات شكسبير .. وغابت عن المنتج وله العذر ، حقيقة أن جامعة الدول العربية قد صرفت الملايين على إخراج أفضل ترجمات شكسبير التى قام بها عدد من كبار المفكرين والمترجمين فى العالم العربى..
وبالتالى غاب عنه أيضا أن الإعداد المقترح لن يخرج عن الاستعانة بالترجمات الموجودة بالفعل لمسرحيات شكسبير خاصة وأن الإعداد لن يكون ترجمة جديدة للمسرحيات ؛ مما يعنى الاستيلاء علانية على جهود الآخرين الذين أفنوا عمرهم فى ترجمة شكسبير .. تماما مثلما حدث مع مسرحيات موليير التى تم إعدادها بنفس الطريقة،فصارت فضيحة أو سرقة علنية .. ومع حرص المنتج على عدم الوقوع فى نفس الخطأ مرة أخرى مع شكسبير إلا أنه لم يتمكن من النجاة خاصة وأن المعد الجديد أستاذ جامعى ومتخصص فى الأدب الإنجليزى وليس ممثلا يهوى الكتابة كما كان الأمر مع موليير ..
وانسابت الدولارات الكثيرة قبل أن يفيق المنتج المسكين على صدمة رفض السعودية للمشروع كله، خاصة مسرحيات شكسبير .. فطرد الجميع من شركته .. وربما يقدم مستقبلا مسرحيات تلفزيونية لا تختلف كثيرا عن المسرحيات الفارغة التى نشاهدها .. وفى هذه الحالة لا أعتقد أن اللوم يمكن أن يقع على رأس هذا المنتج المسكين الذى حاول جاهدا الاستعانة بذوى الآراء الجادة من الدارسين فاكتفوا هم بسرقة أمواله .. بمنتهى الأدب .. و.. الثقافة ..
وهكذا فالدائرة لا يجب أن تبدأ وتنتهى بالمنتج وحده ، لأن هناك أطرافا كثيرة يجب كشف القناع عنها إذا كان الهدف الحقيقى هو التعرف على أبعاد ظاهرة الإنتاج التلفزيونى ؛ لأن الوعى يجب أن يحمى المغفلين طالما أن القانون لا يحميهم ؛ خاصة وأن النصب على شكسبير وبه أحيانا ما يتخطى الأفراد إلى الدول التى كثيرا ما تشترى هى الأخرى .. الهواء !!
الوطن
18 / 1 / 1981