
بقلم د. حمدى الجابرى
منذ سنوات بعيدة ، فى مصر والعالم العربى ، كثيرا ما يتم التباهى بالإهتمام بثقافة الطفل العربى ومسرحه وكذلك التباكى عليهما ، وفى الحالتين ، كثيرا أيضا ما تتعالى المطالبات بإستمرار الإهتمام بثقافة الطفل العربى ومسرحه وكأنهما قد أصبح لهما وجودا ملموسا ومؤثر ا، والحقيقة التى أثبتتها الأيام أكدت أن كل ذلك ليس أكثر من أكذوبة كبيرة يتعامى عنها عادة أصحاب القرار وبالذات من يرفعون أجمل الشعارات عن أهمية وضرورة الثقافة ودورها فى بناء الإنسان والوطن وما أكثرهم وأجهزتهم وإداراتهم ومناصبهم الرسمية..

وأظن أن حال ثقافة ومسرح الطفل المصرى والعربى خارج مصر والعالم العربى أفضل أحيانا ليس طبعا لوجود خطط منهجية معتمدة تسعى لتحقيق ذلك بإشراف السفارات العربية والمكاتب الثقافية والإدارات المعنية فى وزارات الثقافة والتربية والتعليم العربية أو فى وزارات الخارجية وكذلك جامعة الدول العربية وإداراتها الثقافية وكلها عادة ما تتم مناقشتها وفى عشرات مؤتمرات وزراء الثقافة .. العرب .. منذ سنوات كثيرة مضت وحتى الآن وستظل كذلك، فالحال الأفضل نسبيا للطفل المصرى والعربى خارج مصر والعالم العربى يعود بالدرجة الأولى الى ما تتيحه للطفل العربى الدول الأجنبية التى يعيش فيها الطفل سواء كان ينتمى الى أسرة عربية مهاجرة هجرة دائمة أو لأسرة مبعوث للدراسة أو أعضاء السفارات أو التجار .. وحتى فى هذه الحالة الأخيرة ربما يعيق ذلك أحيانا ولبعض الوقت المحمول من العادات والأفكار والتقاليد من الوطن الأم حتى بعد تخطى الطفل عائق اللغة التى يكتسبها أسرع من الكبار عادة .. وهو يشبه كثيرا ما يحدث للطفل المصرى والعربى الذى يلحقه أهله بالمدارس الأجنبية داخل الوطن العربى التى توفر له نفس المناهج التى تسير عليها المؤسسات التعليمية المماثلة فى البلاد الأجنبية مع إضافة مواد اللغة العربية والدين وبعض الأنشطة التى ربما يكون بينها دورا مؤثرا وملموسا للمسرح المدرسى أحيانا .
أما أبناء الملايين من الأسر النازحة للعمل فى الدول العربية الثرية فانهم أسوأ حالا سواء لأن عائلهم مهما طال به الزمن فى موقعه العربى الجديد لابد تاركه أو مهدد بتركه طال الزمن أو قصر وبالتالى من المستحيل تحقق الإندماج الذى تسعى الى تحقيقه الدول الأجنبية للعمالة الوافدة اليها ، بالإضافة طبعا الى حقيقة أن النشاط الثقافى والمسرحى الخاص بالطفل فى هذه الدول العربية عادة ما يكون شكليا رغم كثرة الأجهزة والإدارات التى تحمل لافتات كثيرة تتعلق بثقافة الطفل ومسرحه والدليل على ذلك تركز هذه الأنشطة فى الصيف مثلا فى وقت العطلات الصيفية وما يصاحبها عادة من سفر الأهالى بينما فى الشتاء أثناء العام الدراسى لابد أن نتصور قيام (المسرح المدرسى) بالدور الأهم بإداراته وموظفيه وموجهيه ولكن سرعان ما ندرك أنه قائم على الاجتهاد الشخصى لبعض المعلمين من هواة الإلقاء والخطابة وفن التمثيل دون وجود خطة منهجية يجرى العمل على تنفيذها والدليل على ذلك ضياع حتى حفلات نهاية العام الدراسى الموروثة من القرن التاسع عشر فى مدارس مصر مثلا التى رصدها الدكتور يوسف نجم فى كتابه المسرحية العربية ليبقى بعدها متاحا للأجهزة المعنية المتشدقة بثقافة الطفل ومسرحه بعض الندوات التنظيرية والمطبوعات والمهرجانات الهزيلة التى تشيع وهما بوجود ثقافة ومسرح للطفل العربى ..
إذا أخذنا كل ذلك فى الإعتبار الى جانب ندرة وجود دار عرض مسرحى مخصص للطفل فى الوطن العربى حتى فى مصر التى يوجد بها مبنى لمسرح العرائس من أيام عبد الناصر بينما فرقة المسرح القومى للطفل خصص لها مسرحا قديما متهالكا .. للمنوعات منعدم أو ضعيف التجهيزات وسط بيئة محيطة مزدحمة بالمقاهى وسيارات الأقاليم وبقايا الموروث من سلوك المتعاملين مع عروض .. المنوعات التى يشبه معظمها عروض الكباريهات .. وبعضها أقرب الى .. الممنوعات ..
أيضا فى مصر بلد المائة مليون انسان ، أكثر من ثلثهم من الأطفال، تتجلى حقيقة الإهتمام بثقافة الطفل ومسرحه من ضآلة وضعف وتهافت برامج الأطفال فى التليفزيون الحكومى والقنوات الخاصة مع إنعدام وجود مسرحيات الأطفال التى كان يظهر الإهتمام بها فى أعياد الطفولة بالذات فى عهد الرئيس حسنى مبارك بسبب إهتمام قرينته السيدة سوزان بالطفولة والأمومة فأنشأت لها مجلسا ولعبت دورا لدى الرئيس فأصدر أول وثيقة لحقوق الطفل فى عشر سنوات (أولى وثانية) تبارى الجميع أثناء حكمه فى الإشادة بها وإعلان الإلتزام بتنفيذها دون أن يكون لذلك أثره على مستوى الواقع مثله فى ذلك مثل إهتمام صفوت الشريف ووزارة الإعلام بعيد الطفولة الذى تحضره السيدة سوزان مبارك وتقدم من أجله مسرحيات تحضرها السيدة الأولى وسرعان ما إنتهت الحالة بعدها !!
أما وزارة الثقافة فإن دورها فى الإهتمام بثقافة الطفل ومسرحه يشكل مأساة حقيقية قائمة أسبابها ونتائجها ومستمرة .. أمس واليوم وغدا .. الوزارة لديها المركز القومى لثقافة الطفل الذى تشرفت برئاسته لفترة ومقره القاهرة ولديها المسرح القومى للطفل فى القاهرة ومسرح القاهرة للعرائس فى القاهرة ولديها هيئة قصور الثقافة فى القاهرة والمحافظات والأخيرة لابد أن تنفى عنها صفة وزارة ثقافة القاهرة وحدها خاصة مع فى حالة وجود نشاط ثقافى وعروض مسرحية تلبى احتياجات الطفل المصرى فى القاهرة والمحافظات والحقيقة انها ليست كذلك فهى مجرد شريحة إنتاج هزيلة ماديا يتم استخدامها فى بعض قصور الثقافة لتقديم عرض متواضع فقير للأطفال عدة أيام معظمها .. على الورق إستيفاءا للشكل وقانونية الصرف .. حتى بدون .. مهرجانات طلبا للستر !!
ومن واقع تجربة عملية .. أثناء رئاستى للمركز القومى لثقافة الطفل عرضت على وزير الثقافة فاروق حسنى إستضافة أطفال مصر من مختلف المحافظات لتقديم عروضهم المسرحية وتبادل المعرفة من خلال متابعتهم لعروض بعضهم البعض وحواراتهم فيما بينهم يعقبه لقاء ختامى مع وزير الثقافة .. وبالفعل رحب بالأمر وتم كل ذلك وكانت المرة الأولى والأخيرة التى يلتقى فيها أطفال محافظات مصر مع وزير ثقافة مصر الذى تعرف منهم على حقيقة ثقافة ومسرح الطفل الضعيفة بل والمتهافتة فى محافظاتهم .. وللأسف لم يكن حظ ثقافة ومسرح الطفل فى محافظات مصر أفضل حالا من إعلام ومسرحيات وبرامج الأطفال أيام صفوت الشريف .. وهو أمر تتضح حقيقة فداحته وسيادته بل وتوحشه وأسبابه من مجرد تذكر وثيقة حقوق الطفل الأولى والثانية التى ماتت فى حياة الرئيس مبارك الذى أصدرهما وتبارى كل من الوزراء والمحافظين فى إعلان العمل بكل تفان على الإلتزام بها وتنفيذها .. وهو مالم يتحقق طبعا ليس فقط بسبب عجز وقلة حيلة القيادات من كبار الموظفين ولكن أيضا وهذا هو الأهم بسبب غياب ستراتيجية واضحة ومعلنة وملزمة للثقافة المصرية وطبعا معظم البلاد العربية كذلك !
بعد كل ماسبق ، فى الحقيقة ، الإصلاح الحقيقى لثقافة ومسرح الطفل فى مصر وعالمنا العربى عموما لن يكون له نصيب من التحقق والنجاح مالم يتم الإعتراف صراحة بواقع الحال المايل منذ سنوات بعيدة والمستمر للأسف فى مصر والعالم العربى حتى اليوم وغدا .. بدليل أخير .. صديقى الكاتب والمفكر الفلسطينى الكبير وليد أبو بكر الذى تربطنى به صداقة وثيقة ونادرة هذه الأيام ، عتب على – وله حق العتبى – فى مقال منشور بجريدة الأيام بعنوان (حالة أخرى للغياب ) بسبب عدم ورود ذكر لمسرح الطفل الفلسطينى فى دراستى المعنونة (مسرح الطفل فى الوطن العربى) المنشورة عام 2002 ، ومن يومها أحاول العثور على مادة علمية تفيد فى إستكمال نقص قائم ومعترف به دون جدوى وهو أمر يشبه ما آلت اليه توصيات الدراسة التى لم يستفد بها أحد من أصحاب القرار فى الشأن الثقافى للأسف .. ليبقى الإعتراف بكذبة التواصل الثقافى العربى والسبل والقنوات المفتوحة على الأقل قبل أن تفيق الحكومات والوزارات والجامعة العربية الى حقيقة الوضع المتردى للثقافة عموما وثقافة ومسرح الطفل بصفة خاصة .. قبل أن تجبرها الأيام والظروف الدولية المحيطة على الندم على مافات عليهم جميعا إدراكه..
تايم نيوز -هولندا 1-6-2020