
المخرج الألماني يُبعد فنّه قليلاً ليقدّم يوميّات المعتقلين
ترك أحد المعتقلين دور السجان في منتصف المسرحية ما عاد قادراً على تحمل ما يجبره دوره على فعله كما قال
لايمشي المعتقلون إلا ورؤوسهم في الأرض. يكعفون اجسامهم مثل مربعات. يصيرالظهر موضع الضرب. كأنهم، في عودتهم إلى زمن سابق، يتحولون اطفالاً. لانسمع من حكيهم غير الوجع، وهو ردٌّ على الأوامر وعنفها أو صراخ ألم. تصيرأصواتهم كلها همهمة غير مفهومة. وهم في هذه الطفولية المجددة ينسحقون أمام صوت سجانهم. كأنه الصوت الواحد. وهو الذي لا يكون الكلام عنده غير مرفق بضربهم، كأنه يحيل الفعل ومشاهديه إلى الصدى.
كأننا في أمسية (هواةالظلام: من تجارب الاعتقال في السجون السورية)، في صالة (سوليا 7) في جسرالواطي أول أمس، دخلنا ذاكرة المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. هكذا، نجلس فيها ولا نسمع غير صدى استعادتهم يوميات اعتقالهم. كأن فقرالمشهدية، ومرفقاتها الفنية، هو خلاصة الألم باقياً وحده. كما لو أنه الصوت وصداه فحسب. يجلس المتفرجون في سجن تدمر السوري. قدميه. يتجمعون حوله. ويبدأ الضرب. يوجه رئيس السجن عنصره. لا يطلب منه غير تقليده. هكذا لايتوقف الضرب. ولا الشتم. يتحول المساجين إلى أرقام وشتائم أيضاً. وهم يصبحون، من بين تسميات أخرى تطلق عليهم، «حيوانات». يقفون يومياً في طوابير. يضربون فحسب. آمر السجن يتدرب بأجسادهم. يطلب من سجين أن «يعتزبنفسه». أي أن يرفع جسمه. يتجاوب. لكنه يُصفع سريعاً. يقول السجان انه لم يمارس هذه الرياضة من زمان. ويضرب السجين.
يتحول السجناء إلى ممثلين. مسرح داخل المسرح. كأنهم يحولون مُعتَقِلهم إلى ممثل، بقدر أقل من رغبتهم هم بالتحول إلى ممثلين. هكذا، تصير هذه المَسرحة كأنها محاولة أخرى لأنسنةتجربة غير إنسانية. ولهذا السبب، على الأرجح، ترك أحد المعتقلين دور السجان في منتصف المسرحية. ما عاد قادراً على تحمل ما يجبره دوره على فعله، كماقال. كأنه تمثيل فحسب.
والمحكمة حكاية أخرى. يجلس رجلان الى طاولة. يُستدعى المعتقلون بالضرب طبعاً. يتهم، مثلاً، واحد منهم بأنه عميل لإسرائيل. ينفي التهمة عنه. لكنه كأن يحكي لنفسه. يتابع المحقق اهانته وتثبيت التهمة تلقائياً عليه. وأخيراً يجبر على التوقيع على افادة ملفقة،ليرجع، بالضرب، إلى مهجعه.
اعتقل محمود خوجة من العام 1986 إلى العام 1992 في تدمر. تعرض هذه المسرحية، وفقه، تجربة معممة لكل المعتقلين، إذ تشير إلى الخوف والألم والجوع والاهانات. يقول لـ(السفير) إن مشاركته في هذه التجربة أراحت ذاكرته. (تمكنت من قول رأيي بحرية أمام الناس). وهذا مالم يكن متاحاً في مرحلة سابقة. (والمشكلة أنك لا تستطيع أن تتناسى أين كنت).
اشتغل أليكس بوليكيفيتش، مخرج المسرحية، مدة أربعة أشهر مع المعتقلين السابقين. (كان العمل صعباً لأنني أتعامل مع أشخاص خرجوا في التسعينيات (من القرن الماضي) في الغالب، ولم يحكوا بعد عن تجربتهم. هكذا،حين يتوقفون في التدريبات فجأة، تفهم ألمهم. كأنهم عادوا إلى ذلك المطرح(. يقول لـ(السفير) ان هذه كانت محاولة لاتاحة فرصة تعبير لهم. (لذا لم يكن يهمني أن أحدد لهم وجهة كلامهم. تركتهم يخرجون أفكارهم. كنت مجرد منسق بين هذه الأفكار). أبعد فنه، قليلاً، ليكون مجرد وسيط لعرض مقتطفات يومية معيشةمن قبلهم في سجن تدمر. (حاولت أن أبتعد عن مُنَمَط التعذيب في السجون. جربت أن أشتغل على تفاصيل أخرى أكثر يومية، ليس يبعد عنها العنف الممارس ضدالمعتقلين طبعاً). يلاحظ أن المعتقلين صاروا مرتاحين أكثر، (لكن مع مزيدمن المسؤولية والرهبة). عرض تجربتهم، وفقه، أمام الناس والإعلام (سيساهم في تنفيس الضغط داخلهم).
وهذا النشاط الذي تنظّمه (أمم للتوثيق والأبحاث)و(جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية) بتمويل من السفارةالالمانية في لبنان، اشتمل أيضاً على معرض فني لأشغال عمل فيها المعتقلون أنفسهم. هكذا، على مدخل القاعة وضع المعتقل السابق موسى صعب مجسماً لزنزانةانفرادية في (فرع فلسطين) أو سجن تدمر، الذي نقل لقمان سليم عن أحدالمسجونين فيه قول السجان لهم ان (لا رحمة فيه ولا رأفة). لكن قضيةالمعتقلين في السجون السورية ليست منتهية بعد. اذ يؤكد علي أبو دهن، رئيس الجمعية، وجود 620 معتقلاً (معروفة أسماؤهم9 في هذه السجون، مستغرباً تجاهل الدولة اللبنانية قضيتهم.
عاصم بدر الدين
المصدر : السفير 13-10-2012