وليد أبو بكر
العرض المسرحي الذي يقدمه مسرح عشتار الآن، محصلة تعاون بين المسرح، وجامعة أيوا في الولايات المتحدة الأميركية، وبمشاركة اثنين من خريجيها، يستكملان دراسة الماجستير في الكتابة المسرحية والإخراج. جاء هذا العرض نتيجة مشروع تبادلي بدأ العام الماضي. كانت فكرة العرض تهدف إلى تقديم ما يدور حول علاقة عربية أميركية. وقد تعهدت الجهات الرسمية، التي تمثل الولايات المتحدة هنا، بتمويل العرض، أو المساهمة في ذلك، على قاعدة أنه تعاون. لكن الاتجاه الذي سار إليه النص ـ بالضرورة الدرامية والواقعية معا ـ لم يأت حسب المزاج الأميركي، الذي أراده ـ كما يبدو ـ في الحالة التي يحللها العرض، ويرفضها. ومع الشروط الأميركية الجديدة على تقديم الدعم المادي للمؤسسات الفلسطينية، استمر مسرح عشتار، في التعاون الفني، لكنه رفض الشروط، وتخلى عن الدعم المادي، ولم يجد مثل هذا الدعم من مؤسسات فلسطينية رسمية، بعضها يوزع دعمه في زوايا مختلفة، ولا من جهات غير رسمية، وأقدم على إنتاج هذا العرض، الذي التزم به، رغم كل التحديات، ما يجعل لهذا العرض أهميته الخاصة.
ومنذ اللحظة الأولى، يبدو تأثير العمل المشترك بين ثقافتين واضحا ومؤثرا في مسرحية )في زمن الحيتان)، الإنتاج الأخير لمسرح عشتار. هذا الوضوح يلمس في مجموعة من العناصر التي تميز العمل، ليجعل منه عملا مختلفا إلى حد كبير، يلتزم بقواعد مسرحية لا غنى عنها من ناحية، ويحافظ على فرادته، كعرض مسرحي، من ناحية أخرى.
أبرز ما في هذا التأثير، الذي لا يخفي علة أي مشاهد، هو حبكة العمل، التي تتنامى في النص، شيئا فشيئا، حتى تفجره من داخله، وهي حبكة جديدة على النص المسرحي العربي عموما، تسربت إلى هذا العمل من خلال ورشة للكتابة أشرف عليها سام هنتر، من جامعة أيوا الأميركية، استندت إلى فكرة أساسية عامة. وبالرغم من مساهمة فريق العمل في الوصول بنص المسرحية إلى حالته الأخيرة، إلا أن روح العمل الأميركي مبثوثة فيه بشكل عام، في الإطار العام لتضبط العلاقات بين الشخصيات، من خلال التحديد العلني لها، وبناء العلاقات المتطورة بينها، من خلال حركتها داخل الإطار نفسه، ما شكل علاقات غامضة في بدايتها، تتضح شيئا فشيئا، وتتعقد، وتحدث فيها تحولات، هي التي تميز النص المسرحي على وجه العموم، وتمنحه تماسكه من ناحية، وقدرته على التشويق، من ناحية أخرى.
توضيح هذه السمات سهل للغاية: الشخصيات التي تصل السفينة التجارية تبدأ جميعا غامضة، وتنكشف بالتدريج. الغموض يحيط بالجو كله أيضا، مع دخول الشخصية الأولى، التي يحاول زيها، وقلقها، وحركتها داخل السفينة، بجو من السرية، يؤكده الدخول المقنّع لمن يحملون الصناديق المقفلة، والحرص الشديد عليها، في النقل والوضع، ليأتي بعد ذلك ترتيب دخول الشخصيات، والأوضاع التي تتخذها، من الشخصية المحورية الأولى التي تدير دفة الأحداث، إلى شخصية الصبية التي يظهر بالتدريج أنها صحافية تبحث عن الحقيقة (الخارجية) لما تتجه إليه الأحداث، ثم شخصية الرجل الصامت الذي يظهر أنه معارض للسلطة التي تتجه إليها السفينة بما تحمل، ليتم تحويله إلى سياسي بديل لتلك السلطة، عن طريق بطولة مصنوعة، إلى شخصية الموسيقي الجوال، الذي يبحث عن الحقيقة الإنسانية (الداخلية)، التي تكمن وراء هذه الأحداث، حتى الوصول إلى الشخصية المحورية المضادة التي يكون تناقضها مع الشخصية المحورية الأولى سببا في حركة هذه الأحداث، وتغيير معظم الشخصيات، أو تطويعها، حتى تصبح جزءا من الحالة العامة التي تجعل الجميع يدخلون تحت المظلة التي تم التخطيط لها مسبقا، في العالم الجديد.
وهذه الانضباط القوي في بنية النص واضح في اتجاهين: الأول، هو الكشف عن وظيفة كل شخصية، مع تنامي الأحداث، والثاني، هو توضيح طبيعة العلاقات وتحركها، من خلال الفعل المسرحي الذي يقوم به، أكثر من عنصر اللغة. والغموض يجد ما يبرره مع الانكشاف، ويكون لكل شخصية دورها الحاسم في كل ما يجري من خلالها أول الأمر، ومعها بعد ذلك، ربما باستثناء شخصية واحدة، قد تشكل نقطة الضعف البارزة في العرض، رغم أنه كان بإمكانها أن تشكل نقطة قوة إضافية.
الصحافية التي تبحث عن الحقيقة، وتشير إلى أنها تركت عملها لأنها تريد أن تكتب بحرية، تنتهي تحت مظلة تاجر السلاح، يملي عليها ما تكتب، والمعارض ينتهي سياسيا مطيعا، والطالب الجامعي ينتهي مربوطا بالحبال، متهما بالإرهاب، كما يربط الموسيقي أيضا، لأنه أراد أن يقول كلمة فيما يفترض أن يكون عليه توازن العلاقات الذي تنشده الروح الإنسانية، أو موسيقى البشر.
هذه الحبكة كانت تتأكد مع العناصر الأخرى داخل العرض، ولعل من المهم أن يشار إلى المؤثرات التي رافقت ذلك، لتوحي بما يحدث على مستوى الجو العام للبحر المحيط، الذي ظل تأثيره متوازيا بشكل كامل، مع المزاج العام لما يحدث على متن السفينة، ما يجعل من هذه المؤثرات عنصرا بطلا في العرض، لا يقل أثرا عن العناصر الأخرى، كالنص والممثلين، خاصة وأن كل تطور في العلاقات بين الشخصيات كان يقابله تطور في علاقة السفينة بالبحر، لتكون قمة الأحداث في الداخل، عاصفة غاضبة في الخارج، لا تصور وحسب، ولكنها تتدخل، حين تسقط المسدس من يد التاجر، فيقع في يد الطالب.
وقد لا تتضح الحبكة دون تلخيص لسرد الأحداث، بشكل متسلسل: يدخل السفينة تاجر سلاح، تتبعه صناديق صغيرة متشابهة وغامضة. ويتم التعريف بالشخصيات، من خلال علاقات طبيعية بين مسافرين، لتكون الشخصية المضادة لشاب كان يدرس هناك، وحاول أن يفهم شيئا عن الإرهاب الذي يعلنون عليه الحرب، فاتهم وسجن، وجرد من كل شيء، بما في ذلك زوجته، وتم ترحيله على السفينة، ليكتشف خلال غفلة من الحديث بين التاجر والسياسي، أن الصناديق مليئة بالسلاح المدمر الذي ينقل إلى السلطة، ليخلق استخدامه من خلالها مبررا لتدخل من يمنحها السلاح. ومع العاصفة التي تدور في داخله، وفي الخارج، يحاول أن يعطل وصول الشحنة، باستخدام سلاح التاجر الذي (سقط) منه ـ لماذا لم يكن سلاحا فارغا لم يسقط سهوا؟ ـ ليقنعه الموسيقي، والصبية، قبل أن تتحول كليا، بأن العمل الفردي لا يحل مشكلة كبرى، فيلقي بسلاحه ليلتقطه التاجر، ويأمر السياسي بربطه بالحبال، ثم يطلق النار على ساق السياسي، في حركة مفاجئة، لتكون الحقيقة الأخيرة ـ كما ترويها الصحافية مع التوجيه ـ أن سياسيا معارضا تحول إلى بطل، لأنه منع إرهابيا من اختطاف سفينة تجارية، وأصيب في الحادث إصابة بالغة.
هذا النوع من الحبكة غريب على النص المسرحي العربي، الذي تتصاعد أحداثه في العادة دون أن تتداخل بمثل هذا التعقيد الذي تؤثر فيه الشخصيات وتكشف أحداثه، وغالبا ما تصنعها، وهو بالتأكيد نتاج تعاون مسرحي بين ثقافتين.
وعندما يكون بناء الفكرة/الغاية متينا، فإن كثيرا من أمور العرض يأتي من وحيها: لقد أشرنا إلى المؤثرات، التي نشير إلى أنها كانت صوتية أساسا، وساعدتها إضاءة (عطا الله طرزي) لتخلق الجو/ المزاج، لا الصورة الجميلة وحسب. وكانت في الإضاءة لمحات خاصة، توحي بأن الفكرة قادرة على إثارة الإبداع، من ذلك أن يركز شعاع على الصحافية في زاوية، والطالب السابق في الزاوية الأخرى، ليكون ذلك تحديدا لعلاقة حوار بينهما.والسينوغرافيا هي التي مهدت لمثل هذا المشهد الذي لا تردد في وصفه بالابتكار، لأن ماجد الزبيدي تعامل مع النص المتماسك بفنية عالية، لم تعتمد التشكيل المشهدي الجميل وحسب، ولكنها أضافت إليه وظائف مسرحية أخرى، من خلال الاستخدام المتنوع للمفردة الواحدة، ومن خلال التفاعل مع المزاج العام للعمل، ثباتا وحركة، هدوءا وعاصفة، وحركة شخصيات.
يشكل المعبر أساسا نموذجا للتحولات الوظيفية في مفردات الديكور: فبالإضافة إلى وظيفته الأصلية، تحول إلى وظائف أخرى: من مكان جلوس إلى سجن إلى سلم إلى معبد هندي، وغير ذلك. كانت حركة التحويل جزءا من حركة الفعل المسرحي معظم الوقت، وأحسنت إيمان عون، المخرجة، استخدامه، واستخدام بقية مفردات الديكور، مثل حبال السفينة، وأشرعتها، في وظائف متعددة، لكن هذا لا يعفي العرض من تحريك مجاني لقطع الديكور، لم تكن وظيفته واضحة، خاصة في مشهد التحول السياسي بين المعارض والتاجر.وإذا كان وجود المظلة، لا وظائفها الإضافية، على متن سفينة يثير التساؤل، فإن البعد الرمزي لوجودها، على بساطته، لا يغيب عن الذهن: لقد حملها تاجر السلاح، الذي يقود الأحداث، واستطاع في النهاية أن يضع الجميع تحتها، تحت مظلة حيتان هذا العصر.
ومحصلة لمثل هذا السياق الذي يوحي بالتكامل، كان فعل الممثلين يحلق في المستوى ذاته إلى حد كبير: إدوار معلم، في دور تاجر السلاح، ممثل كبير جدا. رغم قلة الأدوار التي أتيحت لي لمشاهدته فيها، وعدم قدرة هذه الأدوار على أن تمنح فرصة التعبير عن قدراته، كممثل متمكن، جاء هذا الدور ليؤكد عمق القدرة على الأداء، وعمق الكفاءة، بشكل لا يخفى على أحد، ويكاد يتساءل: لماذا لم تكن مثل هذه القدرات واضحة من قبل، مع أنها تضعه في الصف الأول بين ممثلي المسرح العرب، الذين يلتزمون بالمدارس الحديثة في الأداء، خاصة وأنه لم يعتن بذاته فقط، ولكنه شكل مايسترو الأداء بالنسبة لجميع زملائه، الذين لا يغادر أي منهم الركح، طيلة فترة العرض؟
لماذا تضطر ظروف المسرح، وربما الحياة، ممثلا بهذا الحجم، كما يقدمه العرض، أن يحصر نفسه في أدوار لا تستحقه؟ مثل هذا الأمر يشير بوضوح تام إلى أزمة المسرح على الأرض الفلسطينية. لقد كان أداء إدوار، ينساب بهدوء ووعي، دون صراخ أو انفعال، وكان قادرا على إيصال فكرته بالبساطة التي يقتضيها الأداء الواعي لمهمة المسرح.إلى جانبه كان محمد عيد، الذي يؤدي دورا أصعب، على المستوى الجسدي، ويتقنه، لأنه واحد من الممثلين القلائل الذين يمكن أن يستجيبوا للغة الجسد، بين ممثلي جيله، القليلين عددا أصلا. بعض ما يمكن أن يقال لهذا الممثل الشاب، الذي يشكل وجوده شيئا من الذخيرة المهمة للمسرح الفلسطيني، في حاضره ومستقبله، هو أن الأداء الجسدي جزء من لغة المسرح، ويجب أن يظل جزءا من مجمل العرض، متوازنا مع الأسلوب الذي يتخلله جميعا، وهذا ما فعله في الغالب، لكن الأداء من أجل الحركة ذاتها فلت منه في بعض اللحظات، أو أن المعنى الذي قصد إليه الإخراج، لم يصل بوضوح. كان ذلك أساسا في حالة التعبير عن الغضب بشد الأشرعة أو الصعود، ورغم أنه تعبير محتمل في سياق آخر، إلا أنه في هذه العرض يخرج عن اللغة المعتمدة للتعبير الجسدي، لدى الجميع، وهي لغة أرادت الحركة جزءا من التعبير، لا رمزا له، والفرق شديد الدقة بين الحالتين.
وفاتن خوري ورائد العيسة، كانا في أحسن حالاتهما، خاصة وأن دور كل منهما كان يعتمد على الحوار، واستخدام الأدوات المسرحية، وهو ما أدياه بكفاءة كبيرة. ويمكن القول إن تماسك العمل جعل من الحضور المسرحي لكل منهما أوضح مما كان في أعمال سابقة، ما يشير إلى أن العمل ككل، دائما ما يسند أدواته، بما في ذلك من يؤدون الأدوار فيه.
موسيقى رامي وشحة، تشير إلى نوع الموهبة التي يملك، لكن دوره في العرض، وأداءه فيه، يشكل نقطة ضعف، في الصورة العامة للشخصية، وفي انعكاس ذلك على أدائه، ممثلا لها، أو العكس.
يمكن أن يفهم أن شخصية الموسيقي أرادت أن توحي بجوهر الإنسان، الصافي المجرد، مثل الموسيقى، على تنوعها بين البشر. والفكرة ليست جديدة، ولا هي مرتبطة بالموسيقى وحدها، وإنما بالسمات الإنسانية التي تتواجد لدى الناس عموما، لكنها تتسم بالفرادة عند كل إنسان، لتشكل بصمته الخاصة في هذا المجال (هل نتذكر رواية العطر؟). الفكرة عميقة جدا، وأصيلة جدا، لكن التعبير عنها فقير جدا، سردا وأداء، لدرجة أنها تضيع، رغم أن بإمكانها أن تشكل الفرضية النقيضة للعالم المادي الذي تعالجه المسرحية، فتزيد غايتها وضوحا. كان يجب العمل على توسيع التعبير اللغوي عن الفكرة، لأنها لا تشكل حدثا موحيا، وكان يجب التركيز على تدريب الممثل، لأنه يخرج عن سياق زملائه المحترفين، ويؤثر على الإيقاع كله، خاصة وأن الإيقاع كله لايزال بحاجة إلى السرعة التي يمكن أن تتوفر مع استمرار العروض، ويمكن أن تتحسن من خلال تفعيل أكثر مع اللغة المنطوقة، التي تقدم في الغالب بشكل سيميائي، يشير إلى دلالتها دون أن يشرح كثيرا، وهي صفة حميدة في المسرح على وجه العموم.
ولا بد أن يقال هنا: إن إيمان عون، خطت خطوة جريئة ومهمة في طريق الإخراج المسرحي، وكان تأثير تجربتها الطويلة في العمل، وفي الاحتكاك مع الحركة المسرحية العربية خصوصا، والعالمية على وجع العموم، أثرها في فهم الصورة الشاملة للعرض، التي تهتم بالتكامل في المشاهد، دون أن تهمل كل مشهد على انفراد. ومن الواضح أن تأثير التعاون مع جامعة أيوا، من خلال المساعَدة في الإخراج (كيفن هاريس)، والاستشارة في الحركة (نيكولاس رو)، لم يغب عن الأذهان، ما يشير إلى أن مثل هذا التعاون الفني ـ والثقافي عموما ـ حين يمكن مقاومة أية شروط حوله، فيه خير للحركة المسرحية في بلادنا.
هذا العرض جيد مسرحيا، وجيد كمحصلة تعاون. ولأنه كذلك، ما زلنا نتمنى أن يجد له دعما جيدا، رسميا وغير رسمي.
الأيام12 تموز 2005