فى الستينات يوم أن كان للكلمة احترامها على خشبة المسرح المصرى تمنى نعمان عاشور أن يخرج مسرحياته بنفسه ، لأن المخرجين لم يفهموا كلماته ونصوصه بصورة يرضى عنها ، رغم أن المخرج فى تلك الأيام البعيدة ، كان متميزا ودارسا وشاعراللمسرح ، إلا أنه فى الوقت نفسه كان أكثر احتراما للنص المكتوب أفضل بكثير من مخرجى هذه الأيام الذين لم تعد تعجبهم النصوص التى يبذل فى سبيلها المؤلف عصارة جهده وخبرته فيعملون فيها بأقلامهم حذفا وإضافة حتى عاف المؤلف المحترم عملية الكتابة للمسرح ما دام المخرج ومعه نجوم عرضه سيقومون بالتعديل والتبديل فى نصه حسبما يتراءى لهم ووفق مزاجهم الخاص وثقافتهم الأكثر خصوصية .. و .. نشأت أزمة النص المسرحى أو هكذا صورها المخرجون وتعاللت أصواتهم بالحديث عنها حتى كاد رجل الشارع يعرف أن هناك أزمة .. فى النص المسرحى ..
ويبدو أن المخرج المصرى قد صدق لطول ترديد الحديث عن أزمة النص ما زرعه بنفسه وجاء وقت الحصاد .. جاء الوقت الذى تحول فيه المخرج الى مؤلف .. و .. كان سقوطه مدويا مثلما حدث مع سمير العصفورى معد ومخرج أحدث مسرحيات مسرح الطليعة الذى يديره فى مسرحية ” العسل عسل والبصل بصل ” ..
كان من المفترض أن تكون المسرحية لتكريم شاعر الشعب الفنان الراحل بيرم التونسى .. وكان من المفروض أن يتعلم الناس فى مسرح سمير العصفورى الكثير عن بيرم التونسى ، وأن يخرج الناس من العرض المسرحى بنموذج حى عن فن بيرم التونسى .. ولكن لم يحدث للأسف أى شيىء من كل هذا .. المفروض !
حاول سمير العصفورى إستغلال كل إمكاناته ” التأليفية ” فى عمل صياغة درامية أو ربط درامى لمجموعة من قصائد بيرم التونسى .. ورغم أنها مهمة يسيرة يستطيع القيام بها أى طالب فى معهد المسرح ، قسم الدراما ، إلا أن المخرج لم يستطع للأسف فخرجت أشعار بيرم التونسى كأدلة منفصلة وواضحة على عجز الإعداد عن تقديم أى مبرر درامى لوضع هذه القصائد بعينها من بين قصائد بيرم التونسى على خشبة المسرح .. أو بمعنى آخر ضاع أى مبرر درامى لإختيار هذه القصائد بالذات دون غيرها من قصائد بيرم التونسى ، واختفى سؤال منطقى هو : لماذا إختار هذه القصائد ولم يختر غيرها .. فهذا لم يعد مهما أمام محاولة سمير العصفورى إكتشاف وفرض عبقريته كمؤلف .. ولذلك تحول العرض المسرحى الى ما يمكن تسميته بصراع بين المؤلف أو المعد مع المخرج .. ولأنهما شخص واحد لم يكن من الممكن أن يتغلب على نفسه فترك لها الحبل على الغارب لتشرق وتغرب فى سماء بيرم التونسى دون منطق أو رابط أو حتى نظام بدونه يضيع كل المسرح كفن للنظام بالدرجة الأولى .. وبالتالى ضاعت الوحدة الفنية المفترضة أساسا فى أى عمل فنى حتى ولو كان عبثيا ولم يكن أمام المشاهد إلا الاستسلام لمنطق كل قصيدة أو لوحة يراها على خشبة المسرح فى حد ذاتها لأن أى محاولة لربطها بغيرها للخروج بما يسمى بوحدة الأثر العام قد ضاع أيضا ..
ومع الإعجاب الشديد بإمكانات سمير العصفورى المتميزة كمخرج مسرحى ، فأنه ,ابطال عرضه الذين بمسوا ضياع الجانب الفكرى أو التسلسل الدرامى حاولوا تقديم شكل المسرح دون جوهره أو مضمونه ، وإكتفى الجميع بعملية ناقصة للإسقاط السياسى هنا أو هناك وكذلك بمقارنة بعض المشكلات المعاشة ، والتى يمكن أ، تنسحب عليها قصائد بيرم التونسى كالجوع والغلاء وإستغلال الصحافة وغيرها وغيرها من الأشياء التى كان يمكن ألا تورد أصلا فى أى مسرحية أو لا يمكن جمعها فى مسرحية واحدة تقليدية وإنما مجالها الأساسى والأكثر إقناعا هو عمل تسجيلى كما كان مفترضا فى أمسية مسرحية عن بيرم التونسى .. ووقتها كان يمكن أن يقدم سمير العصفورى أى عدد ممكن من قصائد بيرم التونسى للدلالة على إقترابه وتناوله الشعرى للمشاكل المعاشة فى مصر ، ويمكن أن يترك للمشاهد حرية الربط بين طبيعة المشكلة القديمة ومثيلتها الحديثة ، أو حتى يمكن أ، يشير المعد صراحة الى إستمرار المشكلة المثارة منذ الزمن البعيد وحتى اليوم ووقتها كان يمكن غفران أى إضطراب أو تفكك أصبح ملموسا وواضحا فى مسرحية العصفورى التى لا إستطاعت أ، تكون مسرحية درامية لها مواصفات المسرح التقليدى أو مسرحية تسجيلية لها مواصفات المسرح التسجيلى .. وإنما كانت بين بين وبلا نظام ، فضاعت ومعها كل مجهودات سمير العصفورى الذى يبدو أنه كان أول من أدرك غياب الجوهر والمصطلح النقدى والبناء الدرامى ، لذلك أطلق على أبداعه التأليفى أو التوفيقى اسم ” سيناريو ” من جزئين يضمان مشاهد متفرقة بتفرق المشاهد نفسها ويبدو أنه أيضا حاول الهرب من التناول النقدى الجاد بتسمية نصه سيناريو رغم أن ذلك فى حد ذاته يعطى الفرصة للجميع لمعالجة السيناريو كل حسب رؤته وهواه ، لأنه فى مرحلته الأدبية ولم يصل الى مرحلة التصوير كما يحدث فى السينما وهى المرحلة التى يحددها المخرج ، ولكن لأن سمير العصفورى هو نفسه مخرج المسرحية فقد ضاع منه هذا السيناريو أو على الأقل الجزء التكميلى والعملى الذى يراعى طبيعة اللقطة وحجمها وتتابع اللقطات والميزانسين أى الحركة الخاصة بالكاميرا وبالممثل أو بالاثنين معا .. وقد كان لابد من الحديث بلغة السينما طالما أن المخرج المعد قد استعمل مصطلحا سينمائيا وليس مسرحيا لأننا لم نعلم حتى الآن أن النصوص المسرحية يمكن أن تكون مجرد سيناريوهات .. ولكن ما العمل أمام العبقرية التى تهبط على البعض فجأة من السماء !!
مخرج متميز ..
ولكن كل ذلك لا ينفى إمكانات سمير العصفورى كمخرج متميز بالفعل حاول تغطية عجزه ” التأليفى ” بإبها ركبير بوسائل العرض المسرحى ، فأجاد فى خلق التكوينات بأجساد ممثليه والتشكيل الضوئى والحركى والمؤثرات التى أستخدمها أحيانا ببراعة خصوصا فى مشهد يوم القيامة ، تلك القصيدة الرائعة التى أبدعها بيرم التونسى وإستفاد منها سمير العصفورى لتقديم واحد من أبدع مشاهد المسرح المصرى ، ولكن هل يمكن أن تقوم مسرحية كاملة على مشهد واحد متميز لتغفر للرجل كل أخطاء ” التأليف ” أو ” الإعداد “ الذى لم يكن له وجود ؟ .
أيضا إستفاد سمير العصفورى الى أقصى درجة من الموسيقى الشاب على سعد الذى صاحب العمل من البداية الى النهاية ، سواء بأغان جماعية أو موتيفات مصاحبة للتمثيل أو حتى إيقاعات متفرقة للتعبير عن موقف أو التمهيد لشخصية ، وقد وضح مدى إستيعاب على سعد لموسيقى سيد درويش حتى كدنا نتخيله أمامنا خصوصا مع جمله الموسيقية السهلة المصاحبة لكلام شائع عن أ،واع الطعام مثلا بشكل رائع يجعلنا نؤكد أن هذا الموسيقى المتفانى فى عمله والمخلص لفنه يمكنه أن يقوم بكل سهولة بتلحين جريدة يومية ببراعة ، حيث أذاب تماما معوقات التطريب المعتادة التى أخرت طويلا أغانينا الفردية ووقفت عائقا أمام الغناء الجماعى ، ويكفى الملحن الشاب فخرا أنه جعل ممثلى مسرح الطليعة الذين لا تربطهم أية علاقة بالغناء أو الطرب يؤدون أغنيات كثيرة دون أن يشعر الانسان بأى نشاز .. ربما لأن اللحن كان متوافقا مع طبيعة الصوت ودرجته ..
ويبقى نجوم العرض الذين بذلوا المستحيل لربط المشاهد بالمتفرقات التى تضمها المسرحية التى غاب الفكر وخصوصا أحمد حلاوة نجم الكوميديا الذى سيكون له شأن كبير فى الأيام المقبلة وكذلك زايد فؤاد وماهر سليم ومحمد شرشابى ويوسف رجائى وعبد الله الشرقاوى وأحمد عطية وشوشو سلامة وجميعهم مننجوم مسرح الطليعة الذين يبحثون عن فرصة لإثبات إمكانياتهم التمثيلية ووجدوا الفرصة الذهبية لتقديم عرض مسرحى بلا نص تقريبا .. وهى شهادة لإبداعهم الجماعى ..
القبس 31-12-1986