
محور مجلة (الحياة الثقافية)
محمد بن رجب – تونس
(فن المسرح، بين الفلسفة و اللغة و الجسد).. كان ذلك محور العدد الأخير من مجلة (الحياة الثقافية) التي تصدر عن وزارة الثقافة التونسية و التي كان أسسها المرحوم الأديب محمود المسعدي عام 1975.. في عددها الأخير اختارت المجلة محورا هاما تركز أساسا حول فن المسرح وشارك في إنجازه عدد من المبدعين من الأدباء والمسرحيين و المهتمين بالشأن المسرحي عموما.
في دراسة أولى للأستاذ الجامعي و المسرحي محمد المديوني بعنوان ( في كتاب أرسطو (فن الشعر) و ترجماته العربية الحديثة ) قدم خلالها قراءة تحليليةمتسائلا عن الداعي إلى النظر في كتاب أرسطو ( فن الشعر ) و في الترجمات العربية الحديثة له، وما يمكن أن ينتظر تحقيقه من هكذا بحث و أضاف الباحث المديوني 🙁 نذكر أولا و بصورة موجزة بطبيعة الموقع الذي احتله كتاب أرسطوعند الغربيين و يحتله في النقد و التنظير للأدب عامة و للفنون المسرحيةبشكل خاص و نتعرض بعد ذلك، إلى الصلة الإشكالية التي قامت بين العرب القدامى و هذا الكتاب ثم نعرف بالترجمات العربية الحديثة لهذا الأثرالأرسطي وبظروف إنجازها ونعمل على رصد المقاربات المعتمدة في هذه الترجمات مركزين بشكل خاص على مسألة المصطلح وإشكاليات نقله إلى اللغة العربية. (.
و في الدراسة الثانية حول نفس موضوع العدد للأستاذ الباحث بحري البحري الذي عنونها ( مأساة محكومة بالأمل، مدخل إلى دراسة مسرحية( مغامر رأس المملوك جابر ) لسعد الله ونّوس وتحدث من خلالها عن المبدعين العرب و أهميةالإعتراف بإنتاجاتهم 🙂 قليلون هم المبدعون العرب الذين يعترف بقيمتهم أثناء حياتهم، وأقل منهم أولئك الذين يجدون طريقهم إلى برامج التعليم ماقبل الجامعي في بلادنا و في كثير من بلدان العالم الأخرى، وسعد الله ونّوس ليس مؤلفا مسرحيا مغمورا بل هو واحد من أبرز كتاب المسرح العربي المعاصر وأعماله لا تنتظر اعترافا من أحد وبرامج التعليم الثانوي في تونس، قد تداركت نسيان هذا المبدع مدة طويلة، ربما كانت من السباقين إلى ذلك من بين البرامج الدراسية في البلدان العربية بعامة، إذ أصبحت مسرحية ( مغامرة رأسالمملوك جابر ) بدءا من السنة الدراسية 2007-2008 أحد الآثار الأدبية التي يدرسها تلاميذ السنة الرابعة من التعليم الثانوي، في أقسام الباكالوريا منشعبة الآداب.). وعن بنية النص المسرحي لهذه المسرحية يقول الباحث بحري البحري 🙁 لا تخضع مسرحية ( مغامرة رأس المملوك جابر ) لسعد الله ونّوس إلى تقسيم تقليدي إلى فصول و مشاهد، كما هو الحال في المسرح الكلاسيكي، وهذاأمر مألوف في الكثير من نصوص المسرح الحديث الذي خالف أصحابها تسلسل الأحداث تسلسلا خطيا..). أما عن أحداث المسرحية فهي مضمنة مستوحاة، مثلما هو معروف، من حكاية شعبية خرافية من حكايات ( ألف ليلة و ليلة ) أغناهاالكاتب بحركة مسرحية نامية و أطرها بأطر مكانية و زمانية أكسبتها مدلولهاالسياسي و الإجتماعي.(.
و في دراسة حول ( تجليات السخرية في مسرحية ) مغامرة رأس المملوك جابر) لسعد الله ونّوس ) للباحث علي البوجديدي الذي يؤكد على أنّ اختياره لهذاالعنوان 🙁 يندرج صلب اهتمامنا بالنصوص الساخرة، ورغبتنا في ترسّم ملامح أدب عربي ساخر يخترق الأجناس الأدبية و يكشف عن إنشائية السخرية وبلاغتهافي تلك النصوص.) و هو يطرح تساؤلات عن مفهوم السخرية الذي يعنيه، ووجه حضورهذا المصطلح في مسرحية ونوس، وتجليات ذاك الحضور.
ويضيف الباحث البوجديدي 🙁 لقد غدت السخرية ظاهرة من ظواهر الخطاب ومفهومامن مفاهيم النقد الأدبي، وعنوان أدبية الأديب، وأصبحت من أدق المعارف اللسانية ومن أكثرها حضورا في المباحث السيمائية و التدوالية و الحجاجية. ذلك أنها تشترط لقيامها أسلوبا مخصوصا في الكلام، لا يفصح عن معناه فيستوجب تبعا لذلك (بحثا في علاقة الموصوف من الأشخاص و المواقف و الملفوظ منالكلام المنجز من الأفعال، بالسياق الذي ينتظم فيه.(.
(ويعدّ القصد شرطا أساسيا لا تتحقق السخرية دون توفره، ولهذا تتجاوزالسخرية شخصية الباث أو الساخر، مثلما تتجاوز مجرد النية في إتيانها،وتتطلب لذلك جهازا تأويليا يراعي إضافة إلى ملابسات عملية التلفظ، والغايات المقصود تحقيقها تفحص الملفوظ في ذاتة لآستجلاء ( خططه الخطابية وخصائصه الأسلوبية و الحجاجية، أي آليات اشتغاله لتوليد السخرية.(.
و يختم الباحث دراسته بالقول 🙁 السخرية في مسرحية ( مغامرة رأس المملوك جابر ) لسعد الله ونّوس هي لعب يقوم على رفاهة النقد، فإذا بها بلاغة جديدةفي الكتابة المسرحية تضاف إلى بلاغات المسرح الأخرى، ولذا تتجلى في رئي االأديب المبدع و تتجلى من خلال طرائق الكتابة، تمنح بذلك قولا ما قوة وصلابة، إنها تسمح بعرض شيء بديهي و لكن بإضافة شحنة عاطفية متجددة. ولعلها لكل هذا قد مكنت الساخر من تأكيد قول ما و إعلانه بقوة عوض أن يقول ذلك القول بصوت خافت غير مسموع أو بصورة نمطية تقليدية. إنها بهذا الذي أسلفنا مكنته من تسليط الضوء على أقرب الأشياء إلينا، لقد كشفت عنا غشاوة و حجبا وأرتنا ما لا يرى و أنارت لنا دربا حالكا معتما فأثارت فينا حيرة السؤال،وحرقة المعرفة حول أكثر الأمور بداهة، لتعطيها طابعا خاصا و شكلا مميزا. (.
و في دراستها حول ( جسد الممثل المسرحي : اللغة البليغة ) أثارت الباحثةربيعة بن لطيفة ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن حول اختيار لفظ ( الجسد ) وليس ( الجسم ) لتجسيد الحضور المادي للمثل ) وهذا ما يدفعنا إلى التمييز بين الجسم بآعتباره جسدا بيولوجيا أو كما تطلق عليه مصطلحات الفلسفة الجسدالموضوعي وبين الجسد الذاتي أو الجسد الخاص. وهو شعور مبثوث في الباطن تبعثه فينا حركات أعضائنا وهو محط تأملات الفلاسفة حيث لا يكتفي الفيلسوف بدراسة جسم إنساني و إنما بدراسة الوجود الإنساني المتجسد في العالم.(.
و تضيف الباحثة حول رؤيتها لجسد الممثل المسرحي 🙁 جسد الممثل في المسرح هوالمرسل و المتلقي و المثير و المستجيب و المستجاب له و الباث و المفصح وبالتالي فإن له ما يمكن أن نسميه لغة خاصة به، وإن هذه اللغة تساهم في الكشف عن الإنفعالات البشرية تجاه الواقع كشفا يتراوح بين الافصاح و التلميح و بين المقصود و العفوي و بين الوعي و اللاوعي. هذه اللغة اكتسبها الجسد بمنأى عن الكلمة حيث يقول هشام الحاجي ( يمتلك الجسد لغة تبقى دون اللعبةاللفظية ويبقى المجال مفتوحا بآستمرار للتعبير.(.
(آنذاك يمكننا أن ندرك الوظيفة الهامة والأساسية التي يحتلها الجسد في مسرح البنتوميم أو الإيماء، فهو يعبر بدون الحاجة إلى الكلمة وحتى في المسرح المنطوق عندما تكون الكلمة حاضرة فإنها تارة تدعم بعمل أو تعبيرجسدي أو ربما ينفصل التعبير عن الخطاب فيؤدي الممثل بشفتيه رسالة ما وينقل بجسده رسالة أخرى في نفس الوقت، فالحركات تبث الرسالة إلى المتلقي مباشرةبآعتبار المسرح فنا مرئيا، لأن الجسد متعدد الوظائف فقد قالت آن ماريالسلامي وهي أستاذ سابقة بالمعهد العالي للفن الدرامي في تونس 🙁 إن مفهومالجسد ينطوي على حقيقةمعقدة غير مقتصرة على كونه مادة بل هو يساهم بأشكال مختلفة في نشاطات متعددة.(.
أما الباحثة منى الطياشي فقد تناولت محور العدد من خلال دراسة حول ( علم جمال المسرح من إنشائية النص إلى إنشائية الركح ) و قالت 🙁 إذا اعتبرنا الدراما أضدادا و أسرارا فإن هذه الأضداد و الأسرار موصوفة لجنس خاص، أدبي وفني، هو المسرح، وهذه الأضداد و الأسرار في النص المسرحي أنتجت أضداد وأسرار العرض المسرحي بكل معاييره الزمانية و المكانية وبكل عمق معرفي وعرفاني بآن معا. فإذا كان العلم، المعرفة و العقل، يعتمد المنطق الرياضي والفسلفة و الإدراك وينبني على قيم فكرية و جمالية بذاتها، فإن المسرح يعتمدما يعتمده العقل و الحدس و الإدراك عن طريق الحدس و الذوق. وإذا كانت العلوم تستخدم الرياضيات الحديثة و الدقيقة جدا لتصوغ موضوعاتها و تفسيرهاللوجود، فإن المسرح يستخدم الشيء ذاته، حيث نسجل حضور الفيزياء و الرياضيات في شتى موجودات المسرح، من حيث الفضاء المسرحي كحجم و مساحة و لون وصوت وضوء و كتل.(.
(لكن الفضاء المسرحي ليس كما و علما و تراتبا و انسجاما لكل موجوداته في عرض مسرحي ما لمسرحية ما، بل إن الأهم و الأهم في الفضاء المسرحي هو العلم الذاتي و الحدس الداخلي لكل مبدع ولكل خالق فنان ساهم في صياغة العرض المسرحي بصورته النهائية ابتداء من المخرج و الممثل، ومصمم الديكور والمؤلف الموسيقي و مصمم الإضاءة و الملابس. وكل هؤلاء أضافوا، من علمهم الذاتي ومن حدسهم الداخلي صياغة خاصة للعرض المسرحي، هي صياغة فريدة فيهامن التجلي و الكشف العرفاني الأداة الأهم والأبرز لهوية العرض المسرحي. لذلك فإن كلا من مسرحيات هاملت و ماكبث و عطيل لشكسبير، و دائرة الطباشيرالقوقازية و الأم شجاعة لبريشت، والنورس و بستان الكرز لتشيكوف و مسرحيات إبسن و جورج شحادة وبيكيت وسعد الله ونوس.. إلخ، كأنها نصوص قدمت في مسارح شتى في بقاع شتى من العالم، ولكن لم يكن ثمة عرض لمسرحية من هؤلاء يشبه عرضا آخر لا بل أكثر من ذلك، لم يكن ثمة عرض يشبه عرض آخر لذات المسرحيةولذات المخرج و الممثلين وبقية الطاقم المسرحي، فكل ليلة يختلف عرض هذه المسرحية عن عرض التي سبقتها، أو التي تلتها.. فيوجد شيء مختلف كل ليلة،يبرز في التفاصيل الصغيرة كما يبرز في روح الممثلين و التقنيين، فهم كل يوم في شأن و كذلك عروضهم. هذا الإختلاف هو شيء عرفاني غير مرئي لكنه موجود لايدركه المشاهد، لأن المشاهد يرى العرض لمرة واحدة و يمضي، بل يراه ذاك الفنان المبدع الخلاق الذي يدرك ديالكتيك الإبداع اليومي، ذلك الذي يعرف ديالكتيك الروح و الحدس و الوجدان.. (.
ونختم بدراسة الأستاذ المسرحي كمال العلاوي حول ( البحث عن دراما تسايرالتحولات السياسية والإجتماعية ) متحدثا عن دور المسرح في الثورات العربيةقائلا 🙁 مما لا شك فيه أن الأدب و الفنون جميعا تسعى إلى مسايرة التحولات السياسية والإجتماعية وتترصد لكل ما يمكن أن يتصدى لإدارة الشعوب في مطالبها الشرعية لتحسين أوضاعها و تحقيق طموحاتها…)
ويضيف العلاوي (مرت سنة على قيام ثورة برهنت على أن هناك حسا عربيامشتركا بعد أن يئست الشعوب العربية من الإلتحام من أجل مجابهة الظلم والفساد.. وقيل في هذا الصدد الكثير حول الدور السلبي الذي لعبه الفنانون عموما و كتاب الدراما على وجه الخصوص..فبشاعة الحياة التي تعيشها الشعوب تحت غطاء التضامن و الوعود بتوفير ضرورات الحياة للمواطن.. لم تكن سوى أوهام ساهم الإعلام في تجميل صورها..والآن و بعد أن قامت الثورة هرع الفنانون و الكتاب إلى نفس هذه الوسائل الإعلامية ليصرحوا بأنهم كانوايعملون و يعرفون ما يدور في كواليس أصحاب الأمر و النهي و السؤال : لماذالم يسبقوا إلى القيام بدورهم الأساسي وهو كشف المستور ؟ خاصة في المجال المسرحي وهو المجال الأكثر خطورة لأنه يواجه الجمهور مباشرة ويحدث فيه تأثيرا آنيا.. فهل دقت أجراس هزيمة المسرح كما دقت أجراس بالنسبة لهزيمةالإنسان في حربة ضد بشاعة صورته المنعكسة على مرآة الواقع بحكم بهتته أمام كل ما يحدث من تشويه لهذا الواقع ؟.(.
ويؤكد الباحث كمال العلاوي على هزيمة المسرح أمام ما حصل 🙁 دقت أجراس هزيمة المسرح.. وهذا لا يعني أنّ المسرح قد بلغ حد النهاية، إذ بالإمكان أن نهشم المرآة التي تفرضها علينا قوى سياسية تجمّل وجوهنا بالمساحيق التي تريدها و بالصورة التي تريد أن تكون عليها.. فبعد أن كان المسرح مؤسسة حرة ولها حصانتها و مناعتها أصبح مؤسسة خاضعة للأجهزة الملجمة لأفواه البشر.. وبعد أن ( ترزياس ) يواجه الحاكم بدون أن يرى وجهه المقنع.. وبعد أن صال) أرستوفان ) وجال في مدن ( الطيور ) الحرة مطالبا ( بالسلام) الذي افتقده بنو البشر في مدن الشر.. وبعد أن تخلص ( موليار ) من براثن الأسطورةالواهمة و المعتقد العقيم فاضحا أفضح ممارسات المتكلمين بآسم الله والأنبياء وهو يخفون تحت الأقنعة وساوس شيطان الإحتكار و الإستغلال و قتل الحريات.. وبعد أن اندسّ ( شكسبير ) داخل بيوت الملوك والأمراء والأعيان يكسّر كراسي الحكم التي خضبت بدماء الأبرياء و المجرمين المأجورين على حدّالسواء.. بعد كل هذه المواجهات و المصادمات و الخلافات التي أهدت إلى الإنسان نصوصا خالد و صروحا من المسرحيات التي لن تهدم كيانها أية قوة مهمااشتدت .. بعد كل هذا وقف الكتّاب في الأيام العصيبة أمام حالة انتظارنتيجة جهل لما سيحدث غدا ؟.
هل أصبح كتّابنا يخافون من سيطرة نمط جديد من الحياة وفق مخططات التحولات التي تفرضها متطلبات العولمة على البلدان التي ثارت على الأنظمة الفاسدة ؟. (.
ايلاف – 21 أبريل 2012