وليد ابو بكر
دفاتر الأيام
منذ العام 1970، حتى ساعة رحيله الاختياري، لم يكن يرد شيء إيجابي عن المسرح الفلسطيني في الأرض المحتلة، دون أن يكون فرانسوا أبو سالم حاضراً فيه بقوة، لأن كل حركة جادة في هذا المسرح كان له فعل فيها، إلى الحدّ الذي لا يعتبر خطأ أن يقال إن المسرح الفلسطيني الحقيقي ولد على يديه، لأن كلّ ما سبقه كان مجرّد محاولات خجولة ومتباعدة للدخول إلى عالم المسرح، ظلّت تراوح في مكانها، حتى تصدّى لها بوعي، وأدخل المسرح الفلسطيني في خريطة المسرح العربيّ.
كان فرانسوا أبو سالم فلسطينياً بحجم حبّه لفلسطين، اختياراً حرّاً، حتى دون أن يتمكّن من حمل هويتها، مع انه أصبح جزءاً منها، منذ حمله والده الطبيب، ووالدته الفنانة إليها طفلاً، تربى على أرضها، ودرس، وذلك لأن فلسطينه محتلة، لا تملك أن تمنح هويتها ـ بشكل حقيقيّ لا فخريّ ـ لأحد. ولأن الاحتلال يعرف حجم موهبته، في فنّ يدرك مستوى خطورته، ظلّ يرفض أن يسهّل له حياته على أرض فلسطين ـ وفي القلب منها القدس ـ حتى لا يكون فيها مسرح يمكنه وحده أن يصنعه.
هذا الحبّ النادر لفلسطين، تضافر مع حبّ نادر آخر، في ظروف فلسطين، هو حبّ المسرح، الذي تعلمه في فرنسا، وجرّب فيه هناك، شكّلا معاً ذلك العشق المزدوج الذي كان حافزاً لحياة فرانسوا أبو سالم على امتدادها، وكان دافعاً لاختيار الرحيل، حين حيل بينه وبين المسرح، وبينه بين فلسطين أيضاً، إلى حدود لم يعد قادراً على احتمالها.
في زمن الهواية المسرحية، التي تشكّل بدايات المسرح المعاصر والجاد في فلسطين، كان فرانسوا أبو سالم جزءاً من كلّ فعل مسرحيّ حقيقيّ على أرض فلسطين: كان جزءاً من أول تكوين منظّم لفرقة مسرحية تحمل اسم (بلالين)، وكان جزءاً من انفصال عنها، حين لم يتحقق له ما في ذهنه من طموح، ليكون جزءاً من فعل آخر في فرقة مشتقّة تحمل اسم (بِلا ـ لين)، ومعه أولئك الذين آمنوا بما آمن به إلى حدّ كبير.
وحين جاءت قفزة الفعل من الهواية إلى الاحتراف، كان واحداً ممن أسسوا فرقة (صندوق العجب)، التي تعهّد أعضاؤها بأن يكون (المسرح هو عملهم الأساسيّ طيلة أيام الأسبوع، ولمدة ست ساعات في اليوم(، ومن خلالها أخذ المسرح يتحوّل إلى مهنة جادة، تستحقّ الانشغال الكامل. وهي خطوة قدّمت بعد ذلك لخطوة أخرى، هي الأهم في تاريخ المسرح الفلسطيني كله، الذي لم يبدأ بشكل حقيقيّ إلا معاصراً. إنها خطوة تشكيل فرقة جديدة، استطاعت أن تحمل اسم المسرح الفلسطينيّ إلى كثير من بلدان العالم، وأن تكسب له كثيراً من الاحترام، وهي فرقة (مسرح الحكواتي).
تميّز تاريخ هذه الفرقة بأمرين: أولهما وأهمّهما أنها خلقت وحدة فلسطينية إقليمية في هذا الفن، لأول مرّة، حين تشكّلت من مسرحيين من فلسطين التاريخية بكاملها، فزرعت بذور تعاون لا يزال مستمراً حتى الآن، باعتباره جزءاً من وحدة ثقافية لا يستطيع أن ينتقص منها أي احتلال، خصوصاً وأن معظم الذين انضووا تحت خيمة التعاون هذه، مسرحيون متخصصون، يعرفون أهمية المسرح في تعزيز هذه الوحدة. أما الأمر الثاني فهو أنّ الفرقة أوجدت لنفسها مكاناً مسرحياً في القدس، تعرض فيه أعمالها، وتستقبل أعمال غيرها، ليكون مقرّها أول عنوان حقيقيّ للمسرح الفلسطينيّ، إيذاناً بفترة ازدهاره.
ولم يكن فرانسوا أبو سالم مجرّد عضو في هذه الفرقة، رغم أهمية من شاركوا فيها، وإنما كان عقلها المفكّر والمحرّك، وبين إحدى عشرة مسرحية قدّمتها الفرقة، أخرج ثماني مسرحيات، هي، لا غيرها، منحت (الحكواتي) شهرته عربياً، وعالمياً، من بدايتها مع (باسم الأب والأم والابن) العام (1980) حتى نهايتها مع (كفرشما) العام (1987)، مروراً بكل من: (محجوب محجوب)، و(ألف ليلة وليلة في سوق اللحامين)، و(جليلي يا علي)، و(قصة العين والسنّ)، و(حكايات الصلاة الأخرى)، و(الاستثناء والقاعدة). كما كانت له أعمال مسرحية أخرى، سابقة على الحكواتي ولاحقة، أبرزها: لما انجنينا، قطعة حياة، ألف ليلة وليلة من ليالي رامي الحجارة، البحث عن عمر الخيام، أريحا عام صفر، لا لم يمت، موتيل، شمس، ملحمة جلجامش، ذاكرة النسيان، في ظلّ الشهيد، وهي آخر أعماله.
ولأن هذه الأعمال كانت مسرحاً متقدّماً، شعر الاحتلال بأهميتها، إن لم نقل بخطورتها ـ خصوصاً بعد أن تحدثت عنها صحفه، ودعت المسرح الإسرائيليّ للتعلم منها ـ لذلك اختار أن يتصرّف بواحد من أسلوبين حتى يحدّ من تأثيرها، فهو من ناحية منع عرض معظم هذه المسرحيات في الضفة الغربية المحتلة، ومن ناحية أخرى أخذ يضيّق على العاملين في المسرح، كما هي عادته مع أيّ فنان فلسطينيّ ناجح أو ملتزم. أما بالنسبة لمخرج هذه المسرحيات، فرانسوا أبو سالم، فكانت أساليب المضايقة جاهزة، وهي تتلخّص في تعقيد الظروف أمام وجوده في فلسطين، كحامل للجنسية الفرنسيّة، يحتاج إلى إقامة، أو إلى المغادرة كلّ فترة من الزمن، مع احتمال منع العودة، وهو ما عمل هذا العاشق الكبير على مقاومته بكثير من السبل التي كان بعضها غريباً. وحين ضاق به الحال، حاول أن يعيش في فرنسا، لكن حنينه إلى هذه الأرض التي لا يرى نفسه خارجها، أعاده إليها من جديد.
حين ترك فرانسوا أبو سالم (الحكواتي)، لم يبق لتلك الفرقة شيء من بريقها الأول، حتى وهي تحاول الاستمرار، ثمّ انتهى حضورها الفعليّ، بالشكل الذي تأسست به، بأن توزّع أعضاؤها شيئاً من تركتها، وأسس كلّ منهم جناحه الخاص، وبقي الاسم تابعاً لاسم آخر جديد، حاول أن يكون له فعله المنوّع، لكنه لم يستطع أن يستعيد ما سبق، خصوصاً مع تغير الظروف بعد (أوسلو)، ومع تغير الإدارات والأولويات أيضاً.
لقد انتهت تلك المرحلة المضيئة في حياة المسرح الفلسطينيّ، وإذا كان شيء من فعله لا يزال قادراً على أن يرسل بعض الومضات، بين حين وآخر، فإن أحداً لا يستطيع أن يغمض عينيه عن حقيقة أنها ما زالت تستمدّ بعض ضوئها من بقايا ضوء ذلك العصر الذهبي، الذي أخذ يخفت شيئاً فشيئاً، حتى وصل المسرح الفلسطينيّ إلى ما يمكن أن يلاحظ من حالته الآن.
مع ذلك، فإن عشق فرانسوا أبو سالم للأرض وللمسرح لم يفتر: لقد عاد إلى المكان الوحيد الذي يعتبره وطنه، واكتشف أن هناك من قعدوا في مقعده القديم، لكن بشروط مختلفة، وبعيداً عن ذلك العشق المزدوج الذي تميز به. ومع يأسه حاول: يمكن القول إنه طرق كلّ الأبواب، التي تعرف قيمته كمسرحيّ وكعاشق أول الأمر، وحين ضاق به الحال، طرق أبواباً لا يحبّها، ووجدها جميعاً موصدة.
الرجل الذي أحبّ فلسطين وأحبّ المسرح فيها، والذي أقام في فلسطين مسرحاً لم يحافظ عليه أحد كما يستحقّ، حين اضطر للبعد عنه، لم يجد له متنفساً مسرحياً حين عاد، لا لأنه فقد قدرته على العشق، ولا لأن أدواته لم تعد صالحة، ولكن لأن الجوّ كله لم يعد صالحاً له، أو لأنه هو لم يعد يناسب هذا الجوّ الجديد، الذي يكفي حضوره فيه حتى يعريه: لقد تحوّل هذا الجوّ إلى جسد ثقافيّ متهالك حتى الحدود القصوى، وخصوصاً في أعضائه المسرحيّة.
سوف أقول: هذا الفنان الكبير، الذي تشعر ذاته بأنها خلقت شيئاً يستحقّ التقدير، على هذه الأرض التي منحها كلّ حبّه، اكتشف أنه لا يجد فوقها شيئاً من الحبّ الذي يستحقه، أو من الرعاية، أو من الاهتمام، أو حتى من مدّ يد العون عند الحاجة الملحّة. لقد شعر بأنه وحيد، فتجرّحت لديه الأنا العليا، ما جعله يختار أن يكون لذاته آخر الأمر، أن يستقل بذاته، وأن يتصرّف بها، وأن يسلّم نفسه لتلك الأرض التي يمنحها كلّ الحب، كي تمنحه القدرة على اللجوء إليها.
يخيّل لي أن ابتساماته الكئيبة، كما لاحظتها آخر أيامه، وصداعه الذي يؤرّقه كلّ الوقت، كانا صراعه الأخير بين المواجهة والهروب، داخل تلك الذات. وذات الفنان هشة، لا تستطيع أن تواجه النفاق الذي يتناقض مع الفن، وفي الظنّ أنها كانت تدرك أن هذا النفاق سيتوسّع ذات لحظة، وربما كانت ـ وهي تودّع ـ تبتسم، سخرية من أولئك الذين قادوها إلى النهاية بأيديهم، ثم أخذت دموع الفقد تملأ عيونهم.
كان فرانسوا أبو سالم في أعماله المسرحية ناقداً حاداً لما هو مزيف، لأنه كان عاشقاً مخلصاً، لا يتردد في تجريح من يتطاول على ما يحبّ، وظلّ فرانسوا أبو سالم ناقداً حاداً في رحيله، وهو يكشف كثيرين ممن كانوا يسيرون وراء نعشه.
وحين قيل إن فرانسوا أبو سالم رحل، شعرت بأن أحداً لا يودعه وحده، وإنما كان الوداع لمرحلة مضيئة من المسرح الفلسطينيّ، كنا نفاخر بها وننافس، ولم يبق بعدها إلا الذين لا يفعلون.
الأيام 30 آذار 2013