هذه الرقصة الأخيرة
د.حمدى الجابرى
لابد أن نحمد الله كثيرا علي ان صناع الفشل المسرحي الذين نجحوا في اهدار الملايين كل عام لم ينجحوا في ارغام المبدع المسرحي علي الاستسلام لمسرحهم المريض الذي تقدم عروضه للكراسي الخالية .. فالمبدع المصري مازال بخير والدليل علي ذلك العرض المسرحي الممتع (رقصة سالومي الأخيرة) الذي يقدمه المسرح القومي تأليف محمد سلماوي اخراج هناء عبدالفتاح بطولة سهير المرشدي وعبد المنعم مدبولي ويوسف داود وشباب المسرح القومي الذين نجحوا في تحقيق حلم قديم لفاروق حسني حول ضرورة قيام المسرح باثراء عقل ووجدان المشاهد والارتقاء بذوقه وحسه الجمالي .
واذا كان محمد سلماوي قد سبق له تقديم سالومي الأولي معتمدا علي المصادر التاريخية والدينية لمقتل يوحنا المعمدان فانه بقدم سالومي الثانية ليس كامتداد لسالومي الأولي حيث ينتفي وجودها التاريخي وان كان المؤلف قد اخترع لها وجودا متخيلا ويحرص علي أن يؤكد خلال النص علي أن هذا الوجود مجرد (تخاريف مؤلف) كما يكرر أن ما نراه علي الخشبة مجرد شخصيات مسرحية, والجميع يمثلون علي الخشبة وفي الصالة, وبالتالي فان التفكير فيما نراه هو الهدف الرئيسي للمؤلف خاصة واننا امام اختراع للتاريخ وبالذات علي ارض فلسطين بعد سنوات منذ مقتل يوحنا المعمدان الذي كانت رأسه ثمنا لرقصة سالومي العارية امام هيرود زوج امها.
وفي التاريخ المخترع يقدم المؤلف رحلة عذاب القتلة بعد استيلاء سالومي علي العرش في مشاهد متوازية. سالومي تستمع بالحكم رغم عذاب الضمير لقتلها حبيبها.. الحاكم السابق الفاسق معتقل ومهان شبه مجنون .. الأرض في حالة بوار والبحر مات.. الحكام لصوص والشعب تسري فيه نيران الثورة, وبينما الثوار يزدادون قوة ويحاصرون المدينة تبقي سالومي غارقة في عذاباتها تنتظر المستحيل بعودة حبيبها القتيل حيا ولو عن طريق السحر وازهاق الأرواح البريئة .. وبذلك تكون الشحنة الانفعالية التي اراد المؤلف تحقيقها قد وصلت الي اقصي مداها بكل تفسيراتها السياسية.
وكان التميز سمة عناصر العرض المسرحي من خلال توظيف المخرج الخلاق لها, فالحركة المسرحية الدائرية تتناسب مع التفكير التآمري وثراء الملابس التاريخية مع بساطة ديكور سكينة محمد علي الثابت بستائره الشفافة لمشهد الحمام وستائر الحبال لسجن الحاكم السابق ونحت فادي فوكيه مع اضاءة عاصم البدوي المبهرة بتوظيفها ودرجاتها المتعددة وألوانها المعبرة عن الموقف والحالة النفسية قد ساعدت ايضا علي المتعة البصرية مع قدرتها علي الابهار بالحالات المختلفة ما بين ثورة حب وايضا الساحرات الثلاث وكذلك موسيقي راجح داود الهادئة سواء كخلفية تبطن الحدث وتصاحبه أو كمشاركة في صنع الموقف الدرامي والارتقاء به وجدانيا الي الذروة بأسلوب يدفعنا الي اعادة النظر في حقيقة الموسيقي ودورها في المسرح. يبقي نجوم العرض .. سهير المرشدي سالومي التي بدأت جريمتها وانتهت برقصتين جسدهما ببراعة المخرج من تصميم مايا سليم أداء يسار عنتر كنقلة زمنية عندما تخرج الراقصة الصغيرة من ظهور سالومي لتعود اليه للتحمل سهير المراحل المختلفة للشخصية المحورية ببراعة تذكرنا بها كبطلة لبستان الكرز بعد أن أكسبتها الأيام النضج والتمكن من ادوارها الصوتية والجسدية ومخزونها الانفعالي في المراحل العاطفية المختلفة فاستحقت الاعجاب وكذلك عبد المنعم مدبولي بعد كارثة دوره في (تفاحة يوسف) عاد ليمتعنا بهيرود كشخصية غنية بالمشاعر والاحاسيس حاملة الرأي في نفس الوقت, وكان يوسف داود مكسبا للمسرح القومي في شخصية الوزير شاهين, كما اثبت شباب المسرح القومي احقيتهم في مرتبة النجوم وهم حسن العدل ومحمود البنا وعلاء قوقه وأماني يوسف ورشا فؤاد وكذلك القدامي سلوي محمود ومرسي الحطاب وعبد العزيز عيسي وعاصم رأفت وابراهيم نصر ومحمد صلاح مع المتميزين حمادة شوشة وصفاء أمين وشدو الجارحي وسامي المصري ومجدي عبد الحليم والفت كامل وحمدي العربي.
جريدة:الوفد 3/4/1999