)درب عسكر( .. الصدام التاريخي بين الرقابة والمبدعين
د. حمدي الجابري
في بداية الثمانينيات عرض المسرح المتجول الملغي مسرحية (درب عسكر) تأليف محسن مصيلحي إخراج عصام السيد التي لقيت نجاحا كبيرا بفضل ما تحمله من فن وفكر الشباب المخلصين الذين يبحثون لأنفسهم عن مكان في المسرح، لذلك أصبح أصحابها نجوما أتذكر منهم بجانب المؤلف والمخرج النجمة عبلة كامل. ومنذ أيام شاهدت نفس المسرحية بعد وفاة مؤلفها بإخراج جديد وممثلين جدد من الشباب أيضا، وما أكبر الفارق بين كل من العرضين، العرض الجديد إخراج محمود الزيات تمثيل أحمد الشناوي وسحر منصور ومحمد شحاتة وأحمد عبدالجواد وجيسي وحمدي عباس، ملابس نادية المليجي وديكور أحمد فرج. ربط المؤلف محسن مصيلحي في نصه بين الظلم الفني الذي يجسده ما يلاقيه فن الارتجال وأصحابه وبين الظلم الاجتماعي الذي يطحن الفلاح المصري وهوما أكسب النص قيمة كبيرة لأنه يجمع بين عناصر الفرجة والتسلية وبين قدرة الفن علي القيام بوظيفة تنويرية وفر لها المخرج عصام السيد عناصر العرض البسيطة والمعبرة دون افتعال أو مبالغة في الأداء أو ادعاء فارغ لذلك جمع العرض بين المتعة والمنفعة وحقق النجاح لأصحابه. والمنفعة أكدها المستشرق أدوارد لين في كتابه ( المصريون المتحدثون.. عاداتهم وشمائلهم في القرن الثامن عشر) عندما ذكر حكاية الفلاح عوض حيث أكد أن (المحبظين) أو فنان الارتجال قد عرضها أمام الوالي محمد علي وهو ما كشف الظلم الذي يتعرض له الفلاح المصري الذي تنتهك حقوقه وحياته ويستولي رجال السلطة علي ماله ومحصوله وكل ما يملكه وأيضا شرف زوجته، وكلها أمور أكبرها كثيرا المستشرق الذي سجل لنا هذه الحادثة الفنية الفريدة والمعبرة في نفس الوقت عن قدرة الفن والفنان علي التعبير عن مشاكل وآلام شعبه وهو نفسه ما حاول محسن مصيلحي وعصام السيد تأكيده في عرضهما »درب عسكر« القديم لذلك استحق الإشادة والاحترام. وفي العرض الجديد لمسرحية (درب عسكر) اختار المخرج القيام بدور (مدرس) تاريخ المسرح في مصر بالاستغراق فقط في التعريف بتاريخ المسرح والرقابة وفن الارتجال وخيال الظل والمحبظين وأيضا مسرح يعقوب صنوع الذي شهد مسرحه واقعة قيام عسكري الحراسة بالقبض علي الممثل الذي كان يؤدي مشهد قتل البطلة علي المسرح عندما لم يفرق في ذلك الوقت بين الواقع والفن التمثيلي. وإذا كان الصدام التاريخي بين الرقابة والفنان قد سجله محسن مصيلحي للدلالة علي أن الصدام مع السلطة قد اتخذ أكثر من شكل فني واجتماعي فإن تركيز المخرج في العرض الجديد علي تقديم تاريخ فن الارتجال وحده قد أفقد العمل الكثير، خاصة أن هذا التاريخ لا يهم المشاهد المعاصر في شيء لأنه لم يذهب الي المسرح لتلقي أي درس في تاريخ هذ الفن، بجانب أن المسرحية لا يمكن اعتبارها درسا في هذا التاريخ خاصة أن من يقدمونه مجموعة من الشباب صغير السن الذين لم يؤهلوا علميا لتقديم هذا الدرس. لذلك جاء العرض كاجتهاد يعتمد فقط علي حماس شباب وجدوا الفرصة في مسرح حكومي وأرادوا إثبات وجودهم بأدواتهم الفكرية والفنية التي لم تكتمل لدي بعضهم فملأوا القاعة الصغيرة بالقفز والصراخ والمبالغة الشديدة في كل شيء بصورة لا يمكن أن يسترها الادعاء أنهم يقدمون فنونا قديمة وهو الأمر الذي يثبت عدم صحته أن نفس النص سبق تقديمه منذ سنوات طويلة بنجاح لاعتماد مخرجه ونجومه علي فنون الأداء وفق خطة محددة لتحقيق الهدف الأسمي للنص والعرض وهو تقديم المعادل المرئي والمسموع للظلم الذي يتعرض له الإنسان المصري مواطنا بسيطا كان أو فنانا وبأسلوب بالغ البساطة والنعومة دون مبالغة أو افتعال أو محاولات فجة لاستجداء ضحك المشاهد بأي شكل ولو عن طريق تقديم شخصية »مخنث« دون مبرر كما حدث في العرض الحالي. وفي العرض الجديد لمسرحية »درب عسكر« وأيضا في إطار استكمال الدرس وادعاء التأريخ للمسرح المصري يقحم المخرج مالم يكتبه المؤلف الراحل محسن مصيلحي، وهو مايتعلق بمهرجان المسرح التجريبي وهو ما يجعل الأمر كله بالغ الافتعال والغرابة خاصة عندما يقوم الشباب الجدد بإدانة المهرجان الذي يعتبره الوزير أحد أهم إنجازات عهده في الوزارة و(هديته) الكبيرة لشباب المسرح المصري حيث يؤكد المخرج الشاب الجديد في عرضه أن هذا المهرجان لم يقدم لفناني مصر غير غموض ما يسمي بلغة الجسد الغريبة وبالتالي ضاع هدف المهرجان والوزير بعدم استفادة الشباب منه. أي أن شباب المسرح الجديد الذين كان يهدف الوزير الي الارتقاء بهم وتنويرهم وتعريفهم بأحدث فنون الغرب لم يقبلوا (هديته) وهو أمر اذا ما كان صحيحا لابد أن يدفع الوزير الي اعادة النظر في (هديته) لشباب المسرح المصري الذين.. رفضوها.. وفي مسرح الحكومة نفسها!!
الوفد