كان لتراجع المسرح الرسمي المصري منذ سنوات طويلة أكبر الأثر علي مستوي الداخل وعلي مكانته وتأثيره، بل وتاريخه علي المستوي الخارجي..العربي.. وبدلاً من أن يحلم شباب المسرح العرب بتحقيق أي قدر من نجاحات المسرح المصري بأسمائه وأعلامه ونجومه، وصل الأمر إلي التساؤل عن حقيقة واقع المسرح المصري الذي تظهر نماذجه في المهرجانات الداخلية والخارجية، وهي النماذج التي أدت إلي مزيد من الاستهانة بهذا المسرح العريق.. الرسمي. ومن ناحية أخري، فإن اختفاء وتآكل فرق القطاع الخاص وعروضه أفقدت المسرح المصري جزءاً من فعالياته، كما أفقدت السياحة في مصر الكثير من السياح العرب الذين كانوا يحتلون عادة الصفوف الأمامية في العروض الخاصة الكوميدية، وكأن الدولة بمسرحها الرسمي لم تحافظ علي جمهور الداخل وتنميه، بل أيضاً فإن نفس الدولة وقيودها ونظمها العقيمة وضريبة الملاهي والتعامل مع إعلانات المسرح كإعلانات ملاهي شارع الهرم وغيرها من الأسباب، قد أدت إلي تراجع المسرح .. الخاص والعام . وفي الحالتين .. الرسمي والخاص.. النتيجة واحدة.. خسارة أكيدة للمسرح الرسمي بفقدانه جماهيره ، ومع هذا الفقدان ينتفي أي حديث مكرر دون حق عن رسالة المسرح ورقيه بعقل ووجدان أبناء الشعب المصري، أوحتي تقديم صورة مسرحية جميلة وممتعة لمشاهدي القطاع الخاص من المصريين والعرب.. وأيضاً في الحالتين اهتزت كثيراً الصورة التاريخية الخاصة بالريادة المصرية للفنون المسرحية علي المستوي العربي، ولا يمكن التستر وراء عرض متميز قد يظهر بالمصادفة للادعاء أن المسرح المصري بخير.. والتميز هنا بالنسبة لما هو سائد في دور العرض المظلمة أو المهجورة .. ومن النوع المذكور مسرحية »خالتي صفية والدير« إعداد وأشعارحمدي زيدان عن رواية بهاء طاهر التي أخرجها للمسرح القومي محمد مرسي . وإذاكانت »خالتي صفية والدير« قد حققت عند نشرها نجاحاً مستحقاً منذ سنوات طويلة بفضل خصائص البناء الفني المتميز ونبل وفكر وسلاسة أسلوب بهاء طاهر، فإن بعض هذا الميراث الطيب قد انسحب علي العرض المسرحي الذي قدمه شباب المسرح القومي بما يستحق من جدية تتناسب مع تاريخ الرواية واسم كاتبها وأيضاً اسم المسرح القومي العريق الذي يكسب من يتعامل معه شرفاً كبيراً وربما لم ينله من قبل إلا أصحاب الأسماء الراسخة، وبالتالي تحقق للشباب ما لم يتوفر للشيوخ من قبل إلا فيما ندر. ومن ناحية أخري ، فإن إعداد وأشعارحمدي زيدان تشير إلي التزامه بأهم الخطوط الرئيسية للعمل الأهلي لتحقيق وحدة الأثر العام الناتج عن الحالة الوجدانية للشخصيات الدرامية من خلال صراع درامي متوقد، سواء بسبب الخيارات المصيرية للشخصية المحورية »صفية«، أو عدم إدراك »حربي« للمصير التعس الذي ينتظره دون جرم ارتكبه، وبنفس القدر من الجهل والعلم الذي يحقق التوهجصلاح رشوان للمفارقة الدرامية يسقط أيضاً الزوج الثري فيذيق حربي مرارة العذاب والإهانة التي لا يخلصه منها حتي قيامه بقتل الزوج في لحظة انفعال ظهرت مفتعلة ، بل يدخله هذا الانفعال اللحظي ومعه صفية في دوامة الثأر الذي تتمسك به صفية إكراماً للزوج القتيل فهي المحبة السابقة والزوجة الوفية التي تصر علي الثأر. هذا النسيج الدرامي الممتع كاد يسقط في هوة الميلودراما بما يصاحبها من ظلم ودماء وانتقام بجانب المساحات السردية الطويلة والمتكررة التي اشترك فيها كل من المعد والمخرج والتي أنقذ المسرحية منها اللجوء إلي الحوار المتوازي الذي يكشف عن معاناة الشخصية الدرامية واحتمالات سلوكياتها ليبقي النيل كبعد وحيد مجسداً في الشيخ المعمم والمقدس في الدير الذي احتوي صفية قديماً دون النظر إلي اختلاف العقيدة ، كما ضم الحبيب المريض المطارد فسبغ عليه حمايته بسبب ضعفه وقلة حيلته .. أيضاً دون النظر إلي اختلاف الديانة .. فالدين لله والوطن للجميع . وإذا كان رفض صفية لوساطة كل من الشيخ والمقدس يمكن أن يشير إلي ما يقود إليه الانتقام الأعمي، إلا أن تكبير أهل القرية لهذا الرفض والإصرار قد يعني موافقتهم علي ضرورة الثأر وهو ما لا يتناسب مع النبل المفترض في العمل.. ذلك بجانب السذاجة الواضحة في إعلان الولاء التام للبطل لمجرد انتصاره في لعبة التحطيب، مع اللجوء إلي الحلول التقليدية لتقديم نماذج الخير والشر والعلاقات النمطية التي تجسدها الغازية العاشقة للبطل وكذلك الأصدقاء من الأشقياء، والأهم استخدام المخرج المبالغ فيه للشعائرالدينية المسيحية والإسلامية التي تم تجسيدها بالإشارات والصلوات المتكررة علي خشبة المسرح بشكل يقترب من استجداء التعاطف مع الدعوة للإخاء بين المسلمين والمسيحيين وكأنه لا يكفي وجود كل ما يشير إلي المسجد والديروالشيخ والمقدس .
وقد وجد أحمد الحجار الخامة الدرامية المناسبة لألحانه فصاغها بما يحقق الأسي والشجن المناسبتان للحالة الوجدانية للشخصيات الدرامية في صراعها، بينما كانت استعراضات عماد سعيد المتميزة لا مبررلها في المكان والزمان لعدم توظيفها درامياً فأدت إلي تجميد الحدث والشحنة الانفعالية وهي مسئولية المخرج وليس مصمم الرقصات .. أما ديكوروملابس هدي السجيني وإن كان قد حقق أحياناً المتعة البصرية بألوان الملابس والقصر، إلا أن المنظر الثابت طوال العرض لمكونات الديكور لابد وأن يؤثر سلباً علي المتلقي ، كما أن المساحة الضخمة للقصر بجانب الصغرالمتناهي للدير ومكان الشيخ والأسرة نفسها ربما يتم تفسيره تعسفا ًبسيطرة القصر علي الحياةهشام عبد الله في القرية ، هذا الركود حاول المخرج التغلب عليه بتقديم تشكيلات في الفراغ المسرحي الذي عطله الديكور الضخم ، وجاءت التشكيلات باللون والتكوينات المختلفة بأجساد الممثلين والراقصين . الذين امتلأت بهم خشبة المسرح أو ما بقي منها بصورة غير مستحبة أحياناً. تبقي الإشارة إلي تميز وجدية الجيل الأصغر من الممثلين : إيهاب مبروك، أحمد طارق، مصطفي عبدالفتاح، سامي المصري، نوال سمير ومحمود الزيات، بينما الجيل الأكبر: صلاح رشوان، هشام عبدالله، نرمين كمال وعلي عبدالرحيم أصحاب الموهبة والقدرة والخبرة يؤكدون مرة أخري أن شباب المسرح المصري لايزال ينتظر المكانة الت ييستحقها، أما صابرين التي أخذت العمل بما يستحق من جدية فنقص وزنها كثيراً وظهر حرصها علي اللهجة المناسبة للشخصية والتدرج بانفعالاتها بصورة منطقية .
وأخيراً.. فإن »خالتي صفية والدير« كعرض مسرحي بكل مفرداته، ورغم ما شاب الأداء أحياناً من حماس الشباب جعل العرض يقترب من العروض الشبابية ذات الانفعالات الصارخة ، إلا أنه يحسب لشباب المسرح القومي بينما شيوخه في حالة خمول ربما بسبب السن أو المرض أو فقدان الأمل، ولا يمكن أن تكون »خالتي صفية والدير« إلا أحد ملامح الحركة المسرحية التي مازالت في حاجة إلي إعادة نظر.