
ابراهيم العريس
من الصعب، طبعاً، اعتبار الكاتب المسرحي الفرنسي جان راسين، واحداً من أولئك الكتّاب الاستشراقيين الذين ظهروا في الغرب، في شكل خجول أول الأمر ثم بدفق متزايد مع مرور العقود والقرون، ليعبّروا في أدبهم – كما عبّر الرسامون في لوحاتهم والموسيقيون في ألحانهم – عن افتتان بالشرق وسحره وغموضه، كما – بالتالي – عن الرغبة في الاستحواذ عليه.
راسين كان كاتباً مسرحياً مغرماً بالعصور اليونانية القديمة، وهو كرس معظم مساره المهني لكتابة مسرحيات تقتبس، وتعيد تفسير، الأعمال المسرحية وربما غيرالمسرحية أيضاً، المأثورة عن اليونانيين. لكنه في الوقت نفسه كان كاتباً شديد المعاصرة في زمنه (القرن السابع عشر)، كما انه جعل من مسرحياته – المغرقة في البعد زمنياً -، صورة للقيم والأخلاق في موطنه (فرنسا). من هنااعتبرت أعماله دائماً أعمالاً رمزية تستند الى التاريخ البعيد لتقول الواقع. وقوة استخدام هذا العنصر لقول ما هو حديث هي التي جعلت راسين يعتبر)شكسبير فرنسا). وحسبنا أن نقرأ تحليل الباحث والناقد الفرنسي الراحل،رولان بارث لأعمال صاحب )فيدرا) و )اندروماك)، لكي ندرك موطن القوة لدىكاتب يمكن أن نتلمس في المغزى العميق لأعماله نزعة )جانسنية) – معادية للاصلاح الذي حاول أن يجدد في الكاثوليكية – تنكر مبدأ الارادة الحرةوتركّز على الخلاص من طريق العناية الإلهية وحدها. وفي هذا الاطار قديمكننا أن نفهم لجوء راسين الى تلك الفواجع الاغريقية التي يتحرك فيهاالقدر – الخارج عن الارادة البشرية – ليتحكم في مصائر البشر منكراً عليهم أي ارتكاز الى ارادتهم الحرة.
والحال ان هذا المنطلق يفسّر، الى حد كبير، تلك الرغبة التي استشعرها جان راسين، ذات يوم، في أن يكتب واحدة من أكثر مسرحياته يأساً ودموية. المسرحية الوحيدة التي تدور أحداثها في زمن غير بعيد عن زمنه. لكنه، إذ كان اعتاد وضع احداث مسرحياته في أزمان بعيدة،لم يبتعد هنا كثيراً عن تلك الممارسة، إذ أبدل الابتعاد الزمني، بابتعادفي المكان. نتحدث هنا عن مسرحية )بايزيد) التي تتوسط – زمنياً – العقدالأخير في حياة راسين ككاتب، وتستند – الى حد كبير – الى أحداث )حقيقية)حدثت في الآستانة (القسطنطينية، عاصمة الامبراطورية العثمانية) حوالى العام 1639، وكان سفير فرنسا لدى الباب العالي الكونت دي سيزي، هو الذي، كماتقول الحكاية، روى تفاصيلها لراسين إثر عودته من هناك. ومن الطبيعي أن يكون راسين قد وجد في ما رواه السفير، حكاية تصلح لأن يجرب كتابة مسرحية معاصرة، هو الذي كان راغباً منذ زمن طويل في أن يحذو حذو شكسبير، ملهمهالأكبر، ولو لمرة فيقدم موضوعاً معاصراً.
الحقيقة هي أن الأحداث التي ترويها مسرحية )بايزيد) لا تحمل في جوهرها أية خصوصية عثمانية – على رغم ما قد يلاحظه جمهور المسلسلات التركية المعروضة على المحطات العربية في هذه الأيام، وأبرزها على الإطلاق مسلسل )حريم السلطان)، من تشابه كبير بين أحداث هذا المسلسل وأحداث المسرحية الراسينية، غير ان هذا تفصيل يبدو ثانوي الأهمية بالنسبة الينا هنا -: انها مسرحية مؤامرات وسلطة وقصور وغدر وحب، من ذلك النوع الذي كان يمكن أن يروى عن أي قصر ملكي في ذلك الزمن الذي كانت فيه الأحداث التراجيدية الكبرى لا تتصوّر إلا في القصور، ومتمحورة من حول عنصرين اساسيين: السلطة والحب. وفي هذا الاطار تبدو )بايزيد) صالحةبامتياز، ما جعلها دائماً، ومنذ تقديمها للمرة الأولى في باريس أول العام 1672، تعتبر العمل الأكثر تعبيراً عن أقسى درجات الرغبة في الوصول الى السلطة من ناحية، وأعلى درجات السمو في الحب من ناحية ثانية.
تروي مسرحية )بايزيد) تلك الحكاية التي قال الكونت دي سيزي انها حدثت في العاصمة العثمانية، وداخل أروقة الحكم فيها: الحكاية المتمحورة حول روكسانا محظية السلطان مراد (آمورات) وفاتنته، التي حين يكون سلطانها غائباً ذات مرة في معركة يحاصر خلالها بغداد، تفتن، انطلاقاً من إغواء الوزير الأول آكومات، لها، ببايزيد، الشقيق الأصغر للسلطان، والذي كان مأسوراً في القصرينتظر أن ينفذ فيه حكم اعدام اصدره عليه أخوه السلطان. كان آكومات يتوخى من خلال تعزيزه العلاقة بين الأمير الأسير والمحظية الفاتنة، أن يزوجهما ويضع بايزيد على العرش، ما يجعله قادراً على ممارسة قدر من السلطة أكبر بكثيرمن ذاك الذي يمارسه تحت حكم مراد. تقع روكسانا في غرام بايزيد، ويدّعي هذا – للوهلة الأولى – انه بدوره أغرم بها، مع انه في الحقيقة كان مغرماًبالحسناء آتاليد، التي تطلع على ما يحدث وتقرر المساعدة على انقاذ حبيبها لاعبة – تمثيلاً – دور الوساطة بينه وبين عاشقته روكسانا. غير ان هذه الأخيرة تتردد دون المشاركة في بلورة المؤامرة ضد مراد: انها تريد أن تتأكدمن الأمور بأن يتزوجها بايزيد أولاً. يرفض بايزيد فيستبد الغضب بروكسانا وتزعم أنها في سبيلها الى تنفيذ حكم مراد بإعدام بايزيد. هنا ترجو آتاليدهذا الأخير بأن يستجيب ويزعم القبول بزواج روكسانا ريثما يتم انقاذه. لكن بايزيد لا يريد أن يزعم شيئاً. وفي تلك الأثناء تكتشف روكسانا أن آتاليدكانت تخدعها، وأن هذه الأخيرة هي محبوبة بايزيد الحقيقية. هنا تلعب روكسانالعبتها الكبرى حين – وهي على وشك قتل بايزيد – تقترح عليه أن يتزوجها وأن يتم اعدام آتاليد. يرفض بايزيد ويقول انه اذا كان ثمة من سيقتل، فإنه يفضل ان يكون القتيل هو نفسه. وبالتوازي مع هذا، يعرف الوزير بما يدور، ويغضبه أن تختار روكسانا آتاليد لتجعل منها قرباناً لحبها، فهو نفسه كان مغرماًبآتاليد ولا يريد لها أن تقتل. وهكذا يتحرك آكومات ويحرك رجاله نحو السرايالكي يضع بايزيد على العرش بالقوة. ولكن الأوان يكون قد فات: فروكسانا، إذيئست تماماً، أصدرت أمرها بقتل بايزيد ونفّذ الأمر. لكنها لم تنج بفعلتها،إذ يسارع الى قتلها موفد السلطان مراد الذي كان – من البداية – على علم بكل ما يحدث. أما آتاليد فإنها، إذ تعلم بمقتل حبيبها، تنتحر، في الوقت الذي سيكون آكومات على وشك أن يبدي آخر ضروب المقاومة، فيما السلطان يعود الى عاصمته لتسوية الأمور كلها.
على رغم مناخها الاستشراقي وغرابةديكوراتها والملابس، اعتبرت )بايزيد) أولاً، وأخيراً، قصة حب. ونظرالمبدعون دائماً الى مزاجها الرومنطيقي، ومن هنا كانت تلك المحاولات الكثيرة التي جرت لتحويلها الى أوبرا، غير ان النجاح لم يكن حليف المحاولين، بحيث ظل العمل الذي كتبه راسين للمسرح، مرغوباً على هذا النحو. مهما يكن، فإن هذه المسرحية فتحت الباب واسعاً أمام كتاب قلدوها وقلدواأجواءها دائماً، بحيث صار هناك تراث كامل من مسرحيات تدور أحداثها في قصورالشرق. لكن )بايزيد) ظلت العمل الأفضل في هذا المجال.
جان راسين نفسه، هو واحد من أكبر الكتاب المسرحيين الذين عرفتهم فرنسا في عصره، وهو يعتبر واحداً من ثلاثة أسسوا المسرح الفرنسي حقاً، الى جانب مولييروكورناي. وهو ولد عام 1639 في قرية صغيرة تقع قرب مدينة سواسون غير بعيد من باريس. ونشأ راسين يتيم الأب والأم في أحضان الجانسينيين الذين ظل متأثراً بأفكارهم حتى حين حرر نفسه منهم. وهو كتب أعظم أعماله بين العام 1666و1677 وأكثرها مستقى من التراث الاغريقي – الروماني كما اشرنا اعلاه، ومنها)أندروماك)، و )ايفجيني) و )فيدرا) و )برتنانيكوس) و )بيرنيس)، كما كتب أعمالاً مستقاة من العهد القديم. أما الموضوع الأساس الذي هيمن على كتابته ككل، فكان الجنون الذي يعمي العاطفة، والإخفاق الذي هو من نصيب الجنس البشري في نهاية الأمر. وراسين رحل في العام 1699 مكللاً بالمجد كواحد من كبار المتعمقين في دراسة أخلاق البشر وتصرفاتهم من خلال مسرحه.
المصدر: مصر المحروسة نقلا عن الحياة اللندنية
القاهرة 26 يوليو 2012