ينطلق فهمنا للحداثة العربية من مسلمة ثابتة تتمثل في ارتباط الحداثة وتطويرالمجتمعات بأزمة الإنسان العربي المعاصر.. أسئلته.. مخاوفه.. طمأنينيته.. إيمانه.. إلحاده.. هويته.. وجوده.. ومشاريع التنمية البشرية والأنظمة السياسية. وإنساننا العربي أمامه أزمات كثيرة، حادّة وخطيرة. والحديث عن التجريب لا يتجزأ عن مناقشتنا له في زمننا الحالي الذي يشهد تطورات متلاحقةفي العالم، لا تقتصر على الصعيدين الإقليمي والدولي، بل تشق التطورات طرقها باتساع وتمدد إلى الفكر والعقل والمعرفة. ومن هنا نرى أننا إذا اتفقنا مع القول بوجود أكثر من حداثة، نجد أمامنا أكثر من تعريف للتجريب. وينطبق الحال كذلك على تعريف التجريب الذي يحتمل أكثر من حداثة. فما هي أسئلة العربي عن الحداثة وما مواقفه بالضرورة من التجريب؟ هل للحداثي العربي فلسفة خاصة به عن تشكّل رؤيته للحياة والوجود والذات والمعرفة أمأنه يفتقر إليها؟ وإذا سلمنا بوجودها فما هي؟
وإذا قلنا في المقابل لا وجود لفلسفة واضحة ومحددة هل يبرر هذا استعارة بعض المفاهيم والمصطلحات التي استقرت في بيئة ثقافية معينة أو الاقتباس من مدارس فكرية معروفة أو تقليد بعض الصيغ الإخراجية وتفريغها من مضمونها الثقافي وتقديمها كحل سريع أو كجهد توفيقي هو الحل الذي سينقض حداثتنا المعطوبة؟ أليس ما نتحصل عليه من جهود هؤلاء يظل في مرتبة أقل وأقرب إلى عمليات الاقتباس والنقل والترقيع؟
لقد تأثرت مجتمعاتنا العربية بالنتاج الغربي للحداثة في نسخ كثيرة. وهذا شأن الحضارات المؤمنة بالانفتاح والحاضنة للتعددية الفكرية. وقبل الخوض في قراءة مصطلح التجريب ينبغي مناقشة الحداثة والالتزام بأخذ تعريف محدد لها لكي لا نغرق في فضاءات التعريفات.
الحداثة هل هي مزاج أم رهانعلى المستقبل؟
في كتابه (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) يلزم الباحث عبدالله الغذامي نفسه بهذا التعريف للحداثة: «الحداثة هي التجديد الواعي. وهذايعني فيما يعني أن الحداثة وعي في التاريخ وفي الواقع، ويكون الفهم التأسيسي فيها، جذريا مثله مثل شرط الوعي بالدور والمرحلة»(1) وإذا قلنا إن مشروع الحداثة في مجتمعات الخليج هو مشروع مبكر جدا، لا ينفصل عن المجتمعات في وطننا العربي ككل، وأنه يعود إلى عهد التأسيس والاستقلال السياسي لكل دولة على حدة؛ فهذا يعني ألا نحصر الحداثة في جانب واحد دون الاهتمام بالجوانب الأخرى، حتى وإن بدت تلك الجوانب شكلية، كالحداثة الأدبية أو العلمية مثلا؛ فالمتابع لبعض المشاريع الثقافية المتعلقةبالموسوعات وبناء المراكز العلمية المتخصصة التي تتطلّب تمويلا ضخما، قلّما تكترث لها الحكومات العربية. فمشروع بناء الدولة الحديثة في كل من السعودية، وكذلك في عُمان، وفي الكويت، وفي البحرين، وفي الإمارات العربية المتحدة، وفي قطر، يتطلّب دون شك، عدم إغفال شروط التغير ومتطلباته، إذ ليس من السهل أن تنتقل من مجتمع القبيلة والريف والتجزئة، إلى مجتمع سياسي وإداري موحد، تحت بناء الدولة، وهذا يتطلب وعيا بمفهوم الدولة وشروط بنائها.(2)
وعلى الرغم من أن المجتمعات العربية تبدو ظاهريا أنها قد تحررت من كثير من عقلية التفكير التقليدي المتزمت أو المحافظ، إلا أن إعادة النظر في مسألةالحداثة اليوم ومسائلها، يعطي المرء شعورا أن هذه القضية لم تزل موضوع صراع يتجدد، بل ويزداد ضراوة وحدة عاما بعد عام، على عكس ما تدعيه الأوساط الثقافية النخبوية والسياسية، أنها قد تجاوزت الخوض في القضية شكلاومضمونا!
للباحث شكري محمّد عياد رأي هام يتصل بلغة التجاذب بين الغرب والعرب، يقول: «اكتمل نضج الحداثة الغربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى،فتعددت المدارس بين سريالية وتعبيرية ومستقبلية. أما الحداثة العربية فكانت فرعا من فروع الحداثة الأوروبية. وكانت مصر مهيأة بموقعها وبوجود الجاليات الأجنبية واليهودية لظهور بعض الصيحات التي لاقت استغرابا واستهجانا من الفلاحين والبسطاء. ولكون الحداثة في الأدب والفن تعني التجريب المستمر، وجد الكتّاب والرسامون في مصر في السريالية أفقا مناسبا للتعبير عن ذواتهم، وما لبثت السريالية أن كانت ملازمة لكل تيار جاء بعدها،إذ جعلت الأدب تعبيرا عن هم فكري، ومغامرة في المجهول.»(3) وبالإضافة إلى الرأيين السابقين نستنير برأي ثالث للباحث نجيب العوفي عن الحداثة فيعرّفهاقائلا: الحداثة عكس القدامة، والحداثة حداثات… وهي رهان مفتوح على الخفي الآتي، والقدامة في الأساس، رهان مشدود إلى المعلوم الماضي. وإذا كان الإنسان لا يقطع النهر مرتين، ففي هذا المفترق الصعب والدقيق، بين قديم معلوم يتنمّط ويمضي، وجديد مجهول يتخلّف ويأتي، تنتصب أمامنا الحداثة كسؤال مرحلي ضاغط وعميق.(4) وعند هذه النقطة ربما نستطيع أن نطمئن إلى استنتاجنا الذاهب أن التطورات الاجتماعية والسياسية قد لازمت الحداثة. فانزعاج الفلاح البسيط من بعض صيحات التجريب ليس سببه بساطة الفلاح الذي ينحصرتفكيره في قوت يومه بل يرجع ذلك إلى السياسات الاقتصادية والأدوار الاجتماعية التي لم يكن من أهدافها خلق فلاح متعلم بقدر أن تجعل منه نموذجا أو نمطا يسبغ الحياة والفكر والأدب في ذلك الوقت.
بين قديم معلوم يتنمّط ويمضي، وجديد مجهول يتخلّف ويأتي، نعود مجددا إلى أسئلة الإنسان العربي المعاصر. وعند هذه النقطة نستطيع تبيّن أهمية التربة التي ستُغرسُ فيها الحداثة أو تستقبلها. كيف ستنتجها؟ وتصدّرها إلى خارج مجتمعاتها؟ هل ستؤمن بها إيمانا بعيدا أو ستكفر بها وتهاجمها. أستطيع الاستشهاد بنماذج كثيرة لأدباء وشعراء أخذوا ينظرون للحداثة أنها سُبّة وشتيمة! وراحوا لا يتحرجون في مواقف من إعلان عدم مناسبة الحداثة لقيمهم؟فماذا حدث خلال المائة سنة الأخيرة؟ أولئك الذين جربوا كل أشكال الكتابةالإبداعية والفكر والسفر والحبّ في تقديرنا لم يطرحوا أنفسهم في مجتمعاتهم التقليدية كحداثيين، أو لم يصنفوا أنفسهم كذلك، وفي أحسن الأحوال، تم نعتهم من قبل آخرين بنعوت الليبراليين والتقدميين أو حداثويين تسهيلا لتصنيفهم في صنف ما. وثقافة التلقي العربي المسكونة بالانبهار والتواقة إلى التحررمن التابوهات بجميع أشكالها المتعفنة، قد أسهمت في تشكيل صورة نمطية عن الشاعر والروائي والرسام والمسرحي الحداثي. فأين تتشكل قوة مجتمعاتنا،وجاذبية حضورها وتأثيره؟ هل في الاستقرار السياسي والرفاه الاقتصادي أم في التنوير الاجتماعي؟ أم في حرية الفكر والتعبير؟ أم في التطرف والغلووالاضطهاد؟ أما في اختيار البقاء في منطقة الوسط؟ ولكن هل نستطيع البقاء في تلك المنطقة حقا؟!
في دراستها عن البنيوية تسوق الباحثة إديث كروزويل رأيا يفرق ما بين تلقيين للبنيوية مختلفين يصدران من ضرورة الفهم للتفريق بين مزاجين لثقافتين مختلفتين هما الفرنسية والأمريكية. فهي ترى أن البنيوية لا يمكن أن تنتشرأو تتجذر في التربة الأمريكية بنفس الطريقة التي انتشرت بها في فرنسا، وذلك على حد قولها «لأن السعي المعرفي الأمريكي ينطلق من تقاليد مختلفة. فنحن نقلل من أهمية التاريخ وهم يميلون إلى تجميده، ونحن ننظر إلى المستقبل بينما هم يحفظون الماضي»(5) لرأي الباحثة وجاهته التي قد تخصنا، ومن ذلك نستطيع القول إن ثقافتنا العربية والإسلامية تنطلق في نظرها لموضوعات التحضرّ والمدنية وبالتالي الحداثة من تقاليد مختلفة. وهذا قول بديهي ومسلمٌ به. لكن منبع شعورنا المتفاقم بالمرارة وبأزمتنا أننا مجتمعات تمتدحُ خصوصيتها، لدرجة لا تنتبه إلى انغلاقها داخل هذه الخصوصية، حتى أصبحت مجتمعاتنا مجتمعات مستهلكة وليست منتجة. فهل تريحنا هذه الخصوصية؟وهل يُريحنا هذا الاستنتاج؟ حسنا إلى أيّ مدى قد يُريحنا؟
ومسرحيا انشغل المؤلفون الخليجيون بالحداثة كما انشغل غيرهم. وإذا كان للدراما التلفزيونية نصيب الحصة الكبرى بهذا الانشغال، فإنّ المسرح هو الذي قرع ناقوس الحداثة. وإلى المسرح يعود الفضل في تنامي التجارب الإبداعية من سينما وتلفزيون وفنون تشكيلية. والانشغال بالحداثة تركز في تأثيرالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية على مجتمعات الخليج وتجاذب طرفي الصراعبين «قديم معلوم يتنمّط ويمضي، وجديد مجهول يتخلّف ويأتي»، أو بتعبير دارج في أدبياتنا النقدية لمجتمعات الخليج (الغوص والنفط). ويؤكد صحة هذاالاستنتاج الباحث إبراهيم عبدالله غلوم الذي يقول في دراسته المعنونة (المسرح والتغير الاجتماعي في الخليج العربي) ما يلي: «… وربما لم تحتف حركة مسرحية في الوطن العربي بالتغير الاجتماعي كما احتفت به المسرحية في مجتمع الخليج العربي، لأنّ المجتمعات العربية الأخرى لم تواجه ظواهرالانقسام، والتوتر، والصراع، والقلق وعدم التوازن، التي خلقها ظهور النفط،وانقلاب نمط الإنتاج في فترة وجيزة من الزمن. ولا نعني بظهور النفط مجردالمادة الخام، وإنما نعني به محركا أساسيا لتطور النظام الاجتماعي والسياسيفي ذلك المجتمع(6)، وكان حصر الصراع بين زمنين (الغوص والنفط) مفتتحا سارعفي خروج عدد من الأعمال المسرحية والسينمائية المعروفة. وفي حين غابت عن هذه الفنون قضايا ثقافية متعلقة بالهوية وبالتعددية الثقافية شكلت ثنائيات (العلم والجهل/ الخير والشر/ التطور والتخلف) موادّ دسمة ليجرّب من خلالهاالكتّاب كتاباتهم، وهم يرصدون انتقال مفهوم الدولة من حال لأخرى.
التجريب والديمقراطية
ميز الشكليون الروس تمييزات واضحة بين لحظتين تنتظم بهما سيرورة العمل الأدبي هما: اختيار الغرض وصياغته. فعناوين مثل: ماذا حدث يوم 11 أيلول 2001م؟(*) لا تقل أهمية عن سؤال: هل تتذكرون إعصار جونو؟(*) وهل تعرفون من هي راشيل كوري؟(*) أو ماذا حدث يوم 25 يناير 2011م؟(*) إنها جملة من عناوين الأخبار الراهنة التي يمكنها أن تشكِّل غرضا يستدرج القارىء والكاتب والناقد. وفي تفصيل الغرض وكيفية صياغته هناك مكونان مركزيان هما: المتن الحكائي والمبنى الحكائي. فالمتن Fable هو مجموعة الأحداث المتصلة فيمابينها والتي يقع إخبارنا بها خلال العمل. إن المتن الحكائي يمكن أن يعرض بطريقة عملية Pragmatique، حسب النظام الطبيعي؛ بمعنى: النظام الوقتي والسببي للأحداث، وباستقلال عن الطريقة التي نظمت بها [تلك الأحداث] أوأدخلت في العمل(7). أما المبنى الحكائي فهو الذي يتألف من نفس الأحداث، بيدأنه يراعي نظام ظهورها في العمل، كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعيِّنهالنا(8). ونحن نستعرض هذا الكلام الأكاديمي الصارم ماذا نستطيع أن نقول عن الكتابة الإبداعية في المطلق وعن التجريب على وجه التخصيص؟ من المعروف جدلا أن جميع أشكال السرود تلتقي عند هاتين اللحظتين الحاسمتين، وبتعبيرالشكليين (الغرض وصياغته/ المتن والمبنى)، إذ يَصبح في قدرة الكاتب المبدع والمتمكن لأدواته وأنساق (التتابع/ التضمين/ والتناوب وغيرها) من كتابةأعمال إبداعية عظيمة. ولكن لماذا لا يستطيع أحد هؤلاء الكتّاب المبدعيناليوم أن يكتبوا إلياذة تضاهي هوميروس مثلا؟ إجابة قريبة تجيب على تساؤلناتعيدنا الباحث إلى هيبوليت تين ودراسته التي ربطت الأدب بحتمية ظروف البيئة والعصر. ولكننا لا نريد هذه الإجابة. الهجوم الذي لاقته نظريته لا يُرجح كفة خصوبة المُخيلة في تكوين اللحظة الإبداعية.
يستأثر نزوعنا الشخصي للكتابة التجريبية (كوني أمارس هذا الفعل) من مفهوم التجدّد المستمر في تأليف النص فكرة وأسلوبا ومخيالا. فالنص المسرحي لعبةللتخييل، ومساحة فارغة للتكوين. وعلى الكاتب المبدع أن يشتغل على تخليق الخيال وتحفيز الكتابة الإبداعية بكل ما يمتلك من مخزون ثقافي ومعرفي. واختيار التجريب في تقديرنا، معناه اختبار للفكرة على أرض الواقع الاجتماعي، ولا ينفصل الاختبار عن جوهر الاشتغال الدؤوب على مفاهيم التطور والارتقاء بالنص والثقافة والمجتمع.
وإذا كنا نشهد اليوم عصرا جديدا تلا عالم ما بعد الحداثة (حداثة النص الورقي) هو عالم المدونات والأدب التفاعلي، وما يفرضانه من تحديات ماديةوفكرية ونفسية وفنية على التجريب، بات من المنطقي إعادة النظر في كل ما سبق تكريسه. يتفق الباحثون على أن التجريب هو خرق للمألوف وتجاوز له، وعليه نكون في فهمنا للتجريب أمام منطلقين؛ الأول لا تجريب دون طليعة حتى أصبح نعت لفظة الطليعي ملازما للحركات الإبداعية التجريبية منذ القرن التاسع عشرفي فرنسا. عند هذا المنطلق دعونا نتذكر أيضا أنه في نهاية القرن التاسع عشر عرف المسرح الأوروبي وخصوصا لدى الرومانسيين الألمان حركة أدبية هامةانعكست في العودة إلى المسرح الإغريقي، [كانت تعني العودة إلى النص الكلاسيكي] عودة كان من تجلياتها الجمع بين الدين والمسرح بغية البحث عن مرتع صوفي. لهذا، فإن اعتماد التراث الإغريقي، على مستوى الكتابة، كان هدفه هو استرجاع أصول المقدس الذي تجرّد منه الإنسان بحكم وجوده في عالم وضعي وعملي(9)
والمنطلق الثاني أن التجريب هو ابن الديمقراطية. وقد اتفقُ مع ما ذهب إليهالباحث جابر عصفور في هذا المقتبس الطويل نسبيا، الذي نقتبسه من دراسته المعنونة بـ (التجريب المسرحي في حياتنا) معبرا فيها بصراحة وشفافية عن حركة الأنواع الأدبية في علاقتها بالتجريب في فضائنا السياسي المُعقد للعالم الثالث قائلا: «ومن الواضح أنه كلما تأصلت الممارسة الديمقراطية في المجتمع، وسمحت التركيبة السياسية بنوع من التعددية، واقترن التسامح بحركة جناحيه: المساواة والحرية، وأفضت التركيبة السياسية إلى حراك اجتماعي يتأسس برؤية عالم لا تَحتجز عبادة الماضي تطلعه إلى المستقبل، وكلما تلازمتالحرية السياسية والحرية الاجتماعية التي لا تفرق بين الرجل والمرأة، أوتمايز بين أبناء الطائفة أو القبيلة، وتستبدل بأقانيم الطائفية أو القبيلةأو النزعة البطريركية حضور المؤسسة المدنية وقيم المجتمع المدني، وكلما اقترن هذا التلازم بحركة فكرية تعني الوجود الواعد لحركة العقل في مواجهةالنقل، والاجتهاد في مواجهة التقليد، أقول إنه بقدر وجود هذه الشروط، كلهاأو بعضها، يتحدد حيز الفضاء الذي يتحرك فيه إبداع التجريب على كل المستويات، وفي كل المجالات، بعضه أو كله، بخاصة تجريب المسرح الذي يلازم هذه الشروط وجودا وعدما(10).
وبعد هذا كله، من المؤكد أنه يحق أن نمضي بأسئلتنا عن الحداثة والتجريب قُدما: هل الكتابة التجريبية (فكرا وشكلا) التي يقبل عليها بعض كتّابمسرحنا الخليجي اليوم، ومحاولات التركيب التي نشهدها في اللغة البصريةللإخراج وأداء الممثلين ودهشة الجمهور، هل تشير إلى غياب صوفي للكون؟ وهل يعكس هذا كله مناخا ديمقراطيا حراً وتعددية فكرية منفتحة على قبول الرأي الآخر وحياة اجتماعية متطورة؟ ألا تعاني سياسات دول مجلس التعاون من عدم السماح بالتعددية السياسية؟ ألا تخنق سياساتها الحريات الفكرية وتصادر حريةالتعبير؟ ألا تعاني المرأة في بعض مجتمعات الخليج من ازدواجية في التعامل،فالمرأة التي يسمح لها قادتها السياسيون بتبوؤ مناصب سياسية عليا كالوزيرة مثلا لا يسمح لها في مجتمعات أخرى باعتلاء منصة المسرح! ألم تكشف الأحداث الثورية العربية مؤخرا، والاحتجاجات الوطنية التي بدأت في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا وعُمان وسوريا بضرورة إعادة النظر بالنقد العلمي الرصين في دروس المائة سنة الأخيرة على الصعيد التعليمي والصحي والإعلامي والقضائي. والسؤال المتكرر الموضوعي لدى الطائفة المنفتحة: ألا يختلف المناخ الفكري والاجتماعي والسياسي الذي أنتج المصطلح العلمي والنقدي والديمقراطي الغربي في المقام الأول وهو المناخ الذي يمثل الخلفية المرجعيةالدائمة للمصطلح النقدي من ناحية ويفسره ويمنحه شرعيته من ناحية أخرى، عنمناخ عربي يعاني من تبعية سياسية واقتصاديات محبطة ومجتمعات منشغلة بإقامةالدليل على حرمة الموسيقى والغناء والتمثيل. فهل نحن مجربون واعون للتجريب أم أننا مقلدون، استبدلنا ما هو قديم بما هو جديد لمجرد أنه جديد فقط؟(11)
لا أملك إجابات لكل هذه الأسئلة ويظل ما نسعى لتقديمه في هذه الورقة إنّما يتحرّك في باب الاجتهاد.
جماليات المحاكاة
أولى مداخل إجابتنا على أسلوب الكتابة التي يكتبها بعض الكتّاب المسرحيين الخليجيين هي تعريف النصّ. ماذا يعني النص؟! سؤال لا تنشغل به طائفة مغلقةمن الباحثين الشكليين، الرواد منهم أو المقلدون لهم من الباحثين العرب. ويصعب في الواقع الإحاطة بتعريفات النص. فكل طائفة لها تعريفها الصادر من اهتماماتها البحثية والعلمية المتشعبة.(12) وتيسيرا سوف نلزم أنفسنا لتعريف النص ضمن اشتغالنا الأدبي واهتمامنا المسرحي بما يلي: النصُّ هو نص المؤلف. وتخصيصا هو النص المكتوب غير المُعدّ عن جنس أدبي آخر. كُتب بقصدتبليغ رسالة معينة موجهة إلى قراء معينين يتواجدون في مكان ما، مهمتهم استقبال النص وفهمه وتأويله. ويتضمن النص تفاعل العمل الفني مع واقع الخليج العربي والجماعات الاجتماعية فيه بمكوناتها السياسية والاجتماعيةوالاقتصادية والثقافية، لتأسيس صيغ متقدمة للغات المسرح السياسي والاجتماعي عبر التأثيرات العالمية والعربية وأنواع الحداثة الفكرية وتقنيات التجريب.
حسنا. انطلاقا من هذا التعريف فإن ما كتبه هؤلاء الكتّاب(13) هي نصوص مسرحية تحيل إلى مرجعيات مختلفة. وليس الخطر الأكبر بحسب الناقدة آنأبرسفلد «في وضع النص موضع تميز ولكن في قراءته بشكل خاص، تاريخي، ذي رموز وأيديولوجية محددة تسمح لها عملية تقديس النص بالخلود»(14) ونتساءل عند هذه النقطة: هل قرئت نصوص الكتّاب الذين أشرنا إليهم في الحاشية السابقة قراءةأيديولوجية معينة؟ وهل وصلت نصوص بعضهم إلى مرتبة القداسة؟ أشك في ذلك التقديس. أمّا عن القراءة الأيديولوجية فالجواب سيكون بنعم. نعم لقد قرئت بعض النصوص قراءة أيديولوجية معينة، فما من نصّ إلاّ ويحيل إلى صورة ماللعالم وللمجتمع. فهل الأيديولوجية هي الأخرى سُبة أو شتيمة كالحداثة؟ أمابالنسبة إلى وصول بعض النصوص لمرتبة القداسة فهذا يتوقف جوابه لدى المخرجين الخليجيين المسرحيين الذين أسهم بعضهم في تكريس ظاهرة المخرج المؤلف/ والمؤلف المخرج/ والمخرج الممثل. ويوضح الباحث محمد الكغاط أن الفرق بين المؤلف المخرج والمخرج المؤلف يبدو ضئيلا، وأن ظاهرة المخرج المؤلف تجري في الغالب عندما يجد المخرج «نفسه مضطرا للقيام بالكتابة الدرامية إما بسببعدم اقتناعه بالنصوص المتوفرة، وإما بسبب رغبته في كتابة مشروع عرض مسرحي كامل، يجمع عناصر الكتابة الدرامية وعناصر الكتابة السينوغرافية بكلتفاصيلها التقنية»(15)
وفي المقابل ليس جميع نصوص هؤلاء الكتّاب ذات اشتغال تجريبي خارق. فنحن عرّفنا التجريب بأنه خرق للمألوف وللثابت المعروف. فالنص المسرحي التقليدي (لغة وفكرا وشكلا) يمتلك مرجعية ثابتة يسهل تفاعل المتلقي معها. والمرجعيةهنا هي كل تقاليد وأعراف المجتمع ولهجاته ولغته وثقافته المتوارثة عبرأجيال وعصور. وهذه المرجعية التي استطاع كتّاب من أمثال: محمد النشمي، صقرالرشود، عبد الرحمن المناعي، حسن يعقوب العلي، عبد العزيز السريع، عبدالرحمن الضويحي، سليمان الخليفي، عبد الحسين عبد الرضا، صالح موسى، حسين الصالح الحداد، محمد الشنفري، سالم الحتاوي، جمال سالم، عماد محسن الشنفري،ونجيب الشامسي، وغيرهم الكثير تأثيلها، إمّا في صيغة نص يتيم لمؤلفه أونصوص مكتوبة أو عروض مرتجلة، وجد بعض المسرحيين المتأخرين كـ: إسماعيل فهدإسماعيل، حمد الرميحي، غانم السليطي، أحمد عبد الملك، إسماعيل عبدالله،أحمد راشد ثاني، مرعي الحليان، بدر محارب، وفهد ردة الحارثي أنها قليلا ماتُسعفهم لاستقبال الحداثة وطموح التجريب. ولاختبار عناصر النص التقليديوالمَرجع الذي يُحيل إليه سننتخب هذا المقطع من مسرحية (يا ليل يا ليل) للكاتب القطري عبد الرحمن المناعي. يبدأ الكاتب بتحديد الفضاء الدرامي علىالنحو التالي: «قرية على ساحل الخليج العربي يعمل أهلها في الغوص علىاللؤلؤ. في ساحة القرية حيث تتصدرها البوابة الكبيرة لبيت أبي فلاح صاحب السفن وكبير القرية. أمام المنزل المقهى الذي أقامه أبو فلاح والبحر يمتد أمام كراسي المقهى، طريق يؤدي لبيوت القرية وآخر يؤدي للصحراء حيث بئرالماء الوحيد. في زمن ما.. عندما قرر أبو فلاح أن يعول أهل القرية بدون أنيعملوا وقرر دفع نصف أجورهم شهريا وافتتح لهم مقهى يأخذ منهم ضعف مايقبضونه»(16) ماذا يقول المقطع السابق وما الإحالات التي يُحيلنا إليها؟يكتب الباحث عواد علي ما يلي: «من قلب قرية صغيرة، ذات ملامح خليجية صميمة،ينتقي الكاتب شخصيات مسرحيته وأحداثها، وعقدتها الدرامية، رافعا إياها من إطارها المحلي إلى تجربة إنسانية عامة هي قضية استغلال الفرد، القوي المالك لوسائل الإنتاج، لجماعة من البشر الضعفاء، الذين لا يملكون غير قواهم العضلية، بشتى أساليب الإكراه والإرهاب. تنقسم المشكلة الأساسية، التي يتفجر منها الصراع الدرامي في المسرحية، إلى خطين أساسيين، يمهد الخط الأول، بمسار خفي، لبروز الخط الثاني، وسيطرته على الحدث الدرامي في الفصل الثاني. ويمهد الكاتب للخط الأول ابتداءً من أول حوار، فليس ثمة مشهداستهلالي يسبق الحدث الرئيسي، كما في أغلب المسرحيات، بل دخول مباشر إلى المشكلة التي تُخيم على حياة جماعة من البحارة في قرية صغيرة نصف أهلهاحفاة. ويقف وراء هذه المشكلة التاجر، ومالك المراكب والسفن أبو فلاح»(17)
إن جماليات المقطع السابق أنّها تُعلِن عن مرجعيّتها بوضوح تام لا عناءيبذله المتلقي للتعرف على فضاء النص الدرامي، وتذكرنا بالدرس الأوللأبجديات الكتابة التقليدية. هكذا أرسى لنا معلمنا الأول أرسطو قواعدالكتابة المسرحية في المسرح الدرامي الأرسطي. أن «كل مشهد يُولد المشهدالذي يليه ويتولّد من سابقه. والحدث ينمو في خط صاعد مترابط. وأن الحدث يتطور وفق منطق الحتمية الدرامية»(18) وبالنسبة إلى هذا المنطق الحتمي الدرامي تنتهي أحداث المسرحية وحبكتها نهاية تراعي وَحدة الحبكة المكونة من بداية ووسط ونهاية. يبدو أن على الدراما أن تبدأ وتنتهي كأنها قطعة من الحياة.
ومن الأمثلة الشبيهة التي تراعي وَحدة الفعل نستطيع التمثيل بمقطع نقتطعهمن مسرحية (لمن القرار الأخير) لمؤلفها عبد العزيز السريع وسأترك التعليقلكم!. «المشهد الأول. المنظر: صالون عادي مؤثث بغير ترتيب. كرسي خشبي،راديو، كنبات، سجاد للأرضية، شباك بستارة، مدخل إلى اليمين يؤدي للبيت ومدخل إلى اليسار يؤدي للخارج. الزمن: صباح أحد أيام الجمعة. صيف عام 1968»(19) ولا بأس من اقتباس ثالث وأخير، هو (الحاجز) للمؤلف صقر الرشود. وإليكم هذا المُقتبس: «الفصل الأول. تدور أحداثه في بيت حمود العود.. في الصالة. المنظر: صالة فخمة.. جدارها الخلفي عبارة عن شباك زجاجي يبدو منخلفه منظر حديقة المنزل.. في جوانب الشباك تتدلى ستائر ذات عقد وخيوط حريرية ملونة.. في أعالي جدران الصالة حواشي مزخرفة نحتا، على اليمين غرفةفارس بابها ذو فتحة واحدة، على اليسار باب ذو فتحتين يؤدي إلى طريق. أثاث الصالة من النوع الثمين وهو عبارة عن مقاعد جلوس، سجاجيد مزهريات وبعض التحف الصغيرة واللوحات، وتلفزيون مقفل ومنافض سجائر…»(20) ونتساءل: هل يوجد اليوم من يرسم تفاصيل المشهد المسرحي بهذه الدقة للتفاصيل؟ أكاد أن أجزم بلا.
جماليات التفاصيل السابقة التي يعرفها المتلقي بالضرورة تشكّل نوعا من صورةفوتوغرافية للعصر أو للمجتمع لدرجة نستطيع القول معها إنّها الكتابةالنموذج عن زمن ولى أو زمن يخشى الاندثار أو تدهور قيمه فيه. وعلى وجهالحقيقة وتبدل الواقع، واقعنا الاجتماعي طبعا، ألم تتدهور القيم الجميلةوتتفسخ العلاقات الاجتماعية؟ عبر إلقاء نظرة سريعة لدراما المسلسلات الخليجية يمكن الحصول على إجابة قريبة.
إن حرص المؤلفين السابقين على دقة الوصف جزء بسيط لا يتجزأ عن تصورالمحاكاة في القرن التاسع عشر واعتبارها «تصويرا أمينا للحياة البشرية، أي تصويرا للواقع»(21) هكذا سوف يتكرر الحرص على تصوير الحياة برسم تفاصيلالفضاء الدرامي وعلى أنحاء ثابتة: «بيت شمّا عبارة عن بيت عربي قديم، مبنيمن الطين وأحجار البحر…»(22)، أو «المنظر عبارة عن ساحة لمنزل قديم وبسيطبه بعض قطع الأثاث المتواضعة مبعثرة هنا وهناك…»(23)، وإليكم تفصيل آخر: «الاكسسوار جهاز تلفون-بيكاب- مجموعة أسطوانات أجنبية- صينية- أواني شاي– حليب- شنطة يدوية متوسطة الحجم- مفتاح سيارة- زجاجة مرطبات…»(24)، أو «المنظر حوش منزل به ثلاثة أسرة احدها كبير والآخران صغيران وعلى جانبالمسرح بالوعة وبقربها بعض الأواني المبعثرة وفي الوسط…»(25)، أو»منظر منسوق واقف القديم. في جانب منه دكان كبير للمفروشات والجانب الآخر دكانلبيع الجاكيتات، وممر…»(26)
ولهذا النظام التقليدي في الوصف جمالياته المعروفة والتي نكاد الجزم بأنعددا كبيرا من النصوص المسرحية الخليجية لا تخلو منه. هذا الترتيب الذي ينطلق من رؤية خارجية بوصف الفضاء الدرامي، وهو النسق المعروف بنظام الصوغ التتابعي حيث ينبني المتن ويتكون مترتبا «في الزمان على نحو متوال بحيث تتعاقب مكونات المادة السردية جزءا بعد آخر، دونما ارتداد أو التواء في الزمان»(27) وهذا التصوير الصارم هو الذي ثارت عليه الكتابة التجريبية في القرن العشرين عندما استهدف كتّابها بوضوح «خلق علاقات على الخشبة تُرجَع إلى الواقع وتَطرحه ضمن علاقة معينة يُحددها كل عمل على حِدة. والسمةالرئيسية لأغلب الأعمال التي انطلقت من هذا المبدأ هي التأكيد على ماهيةالعمل وعلى عناصر المسرحة فيه من خلال وسائل عدّة، أكثر من التأكيد على كون العمل تصويرا للواقع يُخفي مَعالم إنتاج العمل الفني ليجعله يبدو بديلا عن الواقع، ذلك أن خلق الإيهام لم يَعُد الهدف الأساسي للمسرح»(28) ويوجدسبب آخر في إعلان التمرد على جماليات المحاكاة. إنها محاولة لإعلان الخروج على الأيديولوجية ورفض لها. في كتابها (المسرح بين الفن والفكر)، تناقشالباحثة نهاد صليحة مسائل فكرية واتجاهات نقدية على جانب هام جدا تتصل بالعلاقة الجدلية بين المسرح والفلسفة. يُعدّ كتابها مهما بالنسبة إلينا كونه يصدر من باحثة متخصصة تتسم أطروحاتها النقدية بالجرأة وعمق الفكروثراء في التحليل. وما يتصل بموضوعنا هو البحث في الأصول الفلسفية لنظريةالدراما عند أرسطو. لنبدأ مع الباحثة بهذا السؤال: ما أسباب هيمنة النظريةالدرامية الأرسطية على المسرح الغربي حتى القرن العشرين؟ في الفصل المعنونبالمسرح بين النظرية الدرامية والنظرة الفلسفية ترى الباحثة أن أسباب سيطرةنظرية أرسطو تكمن في تشابه الأيديولوجيا التي كانت سائدة في زمن أرسطووأفلاطون، وامتدادها إلى منتصف القرن التاسع عشر.(29)
التجريب… المرجعية والمواصفات
ليتنا نستطيع القيام بجرد تاريخي للوقوف على مواصفات التجريب منذ العصراليوناني إلى وقتنا المعاصر لمعرفة عناصره… مواصفاته…وأبعاده الأدبيةوالفنية.(30) وإذا كان الأمر على هذه الغاية من الصعوبة فعلينا التوقف عنقراءة المسرح وسبر أغواره والعودة إلى منازلنا لمشاهدة سهرة تلفزيونية. لكن الأمر ليس صعبا. أو هكذا يبدو لنا. فالجهود المسرحية الإغريقية،الأوروبية، العربية من النقاش إلى الحكيم(31) التي بذل أصحابها جلّ أوقاتهم في تأليف القواميس والأنسكلوبيديا المتخصصة لتوثيق كل ما يتعلق بالمسرح جهد عال وثمين لا يُقدر بأثمان. وعلى الرغم من ذلك يظل الشعور بالنقص واردا وبالتقصير محتملا على نحو من الأنحاء. إنّ إيقاع التغير المعرفي في العالم يتسارع بطريقة مذهلة، نتيجة لاكتشافات العلوم والفيزياء. ونظرا لتسارع المعرفة فإن ما يطلق عليه بالثقافة الناعمة من لغة وفنون وآداب بالضرورةتتطور تجاهها وجهة نظر المبدع مع بقاء الحفاظ على قيمة الجوهر الإنساني. وعندما تتطور المعرفة تتطور معها الحياة وتتغير حساسية استقبال المبدعوالناقد والمتلقي لكل ما حوله، وعلى رأسها الكتابة الجديدة التي تمتازبحساسية مختلفة. مهد لتلك الحساسيات الفلسفة التي تزعمتها البنيوية بمعناهاالواسع فهي «ابنة حضارة معينة تنتمي إليها وتحاور منجزاتها الماديةوالروحية. إنها ذات صلة وثيقة بحركة الحداثة من جانب وبالدراسات اللغويةالحديثة ومدرسة النقد الجديد من جانب آخر»(32)، وهي كذلك «طريقة بحث فيالواقع، ليس في الأشياء الفردية، بل في العلاقات بينهما»(33) وسعت على اللغة.
فما هي مرجعيات التجريب؟ ما الذي يرفضه التجريب في المسرح وما الذي يُرحببه؟ هل هناك ثمة أسباب اجتماعية وسياسية وراء التجريب؟ مَن يبحث عن أسبابسياسية خلف التجريب يشبه حال الناظر إلى البنيوية كأنها مؤامرة على الأدب وعلى التاريخ!
سنعود إلى فقرة التجريب والديمقراطية. ودعونا نتذكر ما قلناه سابقا. لقدربطنا بين فهمنا للتجدد المستمر في تأليف النص بالحداثة والتجريب. وقلنا ان اختيار التجريب هو اختبار فكرة التجدد ذاتها على أرض الواقع الاجتماعي. كما استشهدنا بمقولة لجابر عصفور أكد في منطلقين متلازمين تلازم التجريب بالطليعية وأن التجريب ابن للديمقراطية، ولعلنا قد استنتجنا ضمنيا أنفضاءنا السياسي العربي المعقد يعاني حتى اليوم من عدم تأصل الممارسةالديمقراطية في مجتمعاته وبالتالي فالمسرح فقير؛ لأن الإنسان العربي المعاصر في أزمة.(34)
طيب! ألا يحق السؤال أن من ننعته بالآخر الأوروبي والغربي يعاني من أزمات عميقة، فكيف صعدوا بالمعرفة وبالمسرح وبالديمقراطية في ظل أزماتهم الوجودية، ولم نصعد نحن؟
تُعدّ صفة الطليعي مفتتحا مركزيا للمرجعيات التي تأسس عليها عالميا تلقيناللتجريب. وصفة الطليعي «لا تدل على نوع أو شكل أدبي أو مسرحي مُعين، وإنّماتُطلق على كلّ عمل أو تيار أدبي أو فني يكسر الأعراف السائدة ويُمهِّدلمنظور جديد… من ناحية أخرى لا يُمكن اعتبار كلّ جديد طليعيا، إذ يجب التمييز بين ما هو مجرّد بدعة آنية لا تترك أثرا متميزا وتزول بعد فترةزمنية، وبين ما هو طليعي لأنه يُحِدث تغييرا جذريا بالنسبة لما كان سائدا… واعتبارا من 1920، استخدم تعبير طليعي في اللغة النقدية لوصف الحركات التجريبية بشكل عام… ومن الأمثلة الهامة على تيار طليعي واضح المعالم في المسرح مسرح العبث الذي تُطلق عليه اليوم تسمية مسرح طليعةالخمسينيات لأنه شكّل في حينه تغييرا جذريا في مفهوم المسرح ككلّ»(35)
وإذا انتقلنا إلى محاولة حصر المرجعيات نجد أن الإنسان المعاصر في المجتمعات الغربية صار وعيه المتجدد يضعه أمام أسئلته الخاصة وأزمة منظومةالقيم الأخلاقية والاجتماعية التي كان للرأسمالية الكبرى وهيمنةالإمبريالية العالمية دور كبير في خلق الأزمة وتكريسها. أخذ يتكّشف بقوة في الحركات الاحتجاجية العالمية الأخيرة المعروفة باسم وول ستريت.(*).
تاريخيا وكما يشير الباحثون إلى تجمع عدة عوامل سببت ظهور التجريب في الغربمنذ القرن التاسع عشر «حين أصبح الوعي يحتد شيئا فشيئا بضرورة خلق مسرح جديد يساير تطور الحياة والعلاقات الإنسانية التي أصبحت تقودها البورجوازيةالصاعدة في فرنسا بعد سنة 1848. فقد كان الجمهور يزداد اتساعا، تتنوع مشاربه الثقافية وانتماءاته الفكرية ويوجه متطلباته المسرحية وعي تاريخيبدأ يؤطر الإبداع المسرحي بدوره كما يذهب إلى ذلك برنارد دور.»(36) ويستطردالباحث سعيد الناجي في الفقرة نفسها موضحا أن «دليل هذا التطور النوعي للجمهور ما كانت تُحدثه مسرحيات إميل زولا في أواخر القرن الماضي- وكانت أغلبها من إخراج أنطوان- من صخب ونقاشات ومظاهرات كان يصل صداها إلىالبرلمان، نظر لما كانت تحمله من انتقادات اجتماعية عنيفة، وما تميزت به أساليب جديدة في الإبداع المسرحي»(37)، وفي رأيه انّ أهم العوامل المسببةالمؤدية إلى أساليب التجريب في الإبداع المسرحي بشكل عام، هي:
1-1 تقدم التكنولوجيا. وتمثل ذلك في ظهور الإضاءة الكهربائية وما اتاحته من إمكانيات هائلة للتصرف في الفضاء المسرحي وانبلاج التجريب، وتحويل مناظره وأشكاله، بل خلق فضاء خاصا بها.
1-2 اكتشاف السينما. ذلك أن سنة 1895 ستعرف عرض أول فيلم سينمائي في باريس. ويشكل ظهور السينما عاملا أساسيا أثر بشكل كبير في نظرة الجمهور والمبدعين لتجربة المسرح السابقة وفي تطورها اللاحق.
1-3 طلائع السينوغرافيا الحديثة. وقد تبلورت هذه الطلائع في جهود السويسريأدولف آبيا (1862-1928) والإنجليزي إدوارد كوردون كريغ (1872-1966) حيث أسهما في تقديم نظريتين ثوريتين لخلق مبادئ جديدة لتنظيم الفضاء المسرحي في أبعاده الثلاثة، تمثلت جهودهما في ثلاثة جوانب: رفض الديكور المرسوم وتعويضه بالأحجام والأشكال الحقيقية، إخضاع تأثيث الفضاء المسرحي لمتطلبات الممثل والتشديد على ضرورة تغيير نظام هذا الأخير ونسق لعبه المسرحي،واقتراح حركية الديكور المتناغمة مع الإضاءة»
1-4 منجزات المدرسة التكعيبية التي ظهرت سنة 1908. فقد أغنت التكعيبيةالبحث التجريبي في المسرح وتمثل ذلك في اهتمام رساميها بالهندسة فيرسوماتهم. وأطّرت مبادئها اتجاهات المخرجين الجدليين أمثال برتولد بريختوكان اكتشاف التكعيبيين للبعد الرابع بوصلة في توجه المسرحيين إلى البحث عنهذا البعد في فضاءات مسرحية تختلف عن القاعة الإيطالية وتقترح ترتيباجديدا لحيز الممثلين وحيز الجمهور. (38)
الظاهر أن ثورة التجريب أخذت تُشكّل خطواتها بالسير في اتجاهين متلازمينموشومين برفض الأيديولوجية السائدة وتأسيس جماليات جديدة. يتبدى الاتجاهينفي محاولات الخروج على الشكل التقليدي للمسرح الذي أرسته الخشبة الإيطاليةمن ناحية، وخرق منظومة القيم التي كرستها التركيبة الأرستقراطية للمجتمع. وللوهلة الأولى يبدو أن ثورة التجريب هي اشتغال على الجماليات الفنية فقط،لكن التعمق في جوهر التجريب يراه مكونا مركزيا لفضاء اجتماعي جديد، لا يهدفذلك المكون للتزيين أو للتجميل أو الخروج عن المألوف غير المدروس كما فهمهبعض المسرحيين الخليجيين الشباب (مخرجون وكتّاب) بقدر ما يروم التأكيد علىأنه جزء هام من كلٍّ اجتماعي متطور. فقد ساد اعتقاد لدى بعض المخرجينالشباب والكتّاب ارتباط معنى التجريب بمسرح العبث ارتباطا مباشرا، فيغدو الكلام غير المفهوم والعلامات المسرحية (إضاءة وديكور وأداء) غير المنتظمةعلى المنصة وقفز الممثل وصراخه أو صمته الحاد بلا دراية أو تعمق في المعنى كلها من جماليات التجريب! ينسى بعض هؤلاء أن صموئيل بيكيت رائد مسرحالعبث(39) من الكتّاب الدراميين المؤمنين بالمقدس والملتزمين برؤية منتظمةللحياة الاجتماعية، وهذا ما يشير إليه قول أحد الباحثين أن «مسرح العبث هومسرح يعكس البعد الديني للوجود. وهذا ما جعل منه مسرحا متداولا على المستوىالعالمي، بل مادة خصبة تُغري كتابا في العالم بأسره ومنهم الكاتب العربيتوفيق الحكيم الذي جرب هذا الأسلوب في مسرحيتين هما: يا طالع الشجرةوالطعام لكل فم»(40)
والظاهر كذلك أن الاكتشافات السابقة التي سببت ثورة في انبلاج التجريب قدسارعت إلى تقويض المبادئ التقليدية للعملية المسرحية تأليفا وإخراجاوتمثيلا، كما انّها أخذت تُكرس شيئا فشيئا ظهور آليات مبتكرة على مستوىاستعمال اللغة وإدراكاتها المعرفية والذائقة الاجتماعية الجديدة. ويمكنملاحظة تلك الاستعمالات في الروح الحرة للكتابة والتعبير المغاير الخشنوالمبتذل حينا أو السلس الرطب حينا آخر.
ومما يبدو من التجريب في المسرح عامة أن عملية الخرق والاتيان بشيء مبتكركانت في وعي المخرجين أولا أو المخرجين الذين كانوا ممثلين أكفاء ثم في وقتلاحق تقمصوا عملية التأليف، وبدت عملية دمج الصيغتين أو الهويتين الوجوديةوالفنية تسيران معا، وفي تقديرنا يصعب أحيانا فيما شاهدناه من عروض مسرحيةأو قرأناه من نصوص ترجيح عملية على أخرى، إلا في ظواهر استثنائية (عالمياوعربيا)(41) ومهما يكن، فإن خصائص التجريب تنتمي إلى الحداثتين العلميةوالاجتماعية الغربيتين الأوروبيتين، وعلى هذا النحو، يجمل بنا أن نتعرضبإيجاز لأهم ملامح التجريب وخصائصه في الغرب فيما يخص على وجه العمومالحداثتين السابقتين. وإذا كان المجال لا يسمح بتقديم تفصيل تاريخي معمّق،لأسباب تتعلق بعنوان الفقرة القادمة، فإننا سنوجز تلك الخصائص التي كانتصورها ينطلق من صميم اشتغالات المنظرين المسرحيين والمخرجين الثورييناللامعين؛ كأدولف آبيا، وإدوارد كريغ، وإرفين بيسكاتور وبرتولد بريخت وماكسرينهاردت في ألمانيا، وجاك كوبو ولويس جوفيه وأنطوان أرطو في فرنسا،وجيرزي جرتوفسكي وتادوز كانتور في بولونيا، ونرى أن تلك الخصائص قد سارت فياتجاهين متقابلين هما:
الاتجاه الأول: استثمار التكنولوجيا بإطلاق على المنصة ولكن وفق أسس علمية تجريبية وموقف فلسفي وفكري وتقدم اجتماعي.
الاتجاه الثاني: الخروج على مؤسسة التراتبية الاجتماعية الأرستقراطية للخشبة الإيطالية.
لقد أنكر التجريبيون أن التجريب يعني البقاء في الإرث القديم بخلاف عدمتجدد في الأفكار ومعالجتها أوالجرأة على مناهضة التراتبية الاجتماعيةوالذهاب بها إلى شك ومساءلات. أي أن التطور التقني (إضاءة وسينماوسينوغرافيا وفن الرسم) يوازي التقدم في معالجة القضايا العالقة فيالمجتمع. وهذا ما يؤكده كلّ من كتب عن التجريب في الغرب، من كون التجريبابنًا للحداثة وللمدنية وللديمقراطية، لذلك سعى المخرجون إلى الإسراعبالتعبير الحرّ عن الوعي الجديد (فكرا وعرضا)، وعليه حصر الباحث الناجيالمواصفات في الجوانب التالية:
1- تغيير مواصفات الخشبة الإيطالية وتفجير قواعدها البنائية الثابتة. رفض الديكور المرسوم، وتعويضه بالأحجام والأشكال الحقيقية.
2- إخضاع تأثيث الفضاء المسرحي لمتطلبات الممثل؛ والتشديد على ضرورة تغيير نظامه ونسق لعبه المسرحي.
3- اقتراح حركية الديكور المتناغمة مع الإضاءة.(42)
السوسيوثقافية وملامح التجريب الخليجي
لنتذكر البدايات الأولى في شأننا المسرحي العربي. ضمن خطوات متفرقة لم تُشكّل مرجعية علمية للاهتداء بمسببات التجريب الصحيح تنتصب أمامنا محاولات كان لها فضل الريادة التاريخية. إن مسرحنا العربي اليوم يمر بقطيعة ثقافيةمع رواد ذلك الجيل. وكأن جيلنا من الشباب المعاصر الذين يقدمون عروضهم فيالمهرجانات وفي مسابقات المسرح الجامعية والكليات والمؤسسات جيل نبت نبتا بمفرده في المدنية. فمن يتحمل تلك القطيعة؟ هل يتحملها جيل المسرحيين التالي لجيل الرواد المحملين بانتكاسات سياسية كبيرة؟ أم تتحملها وزاراتالثقافة أم شباب المسرح؟ في تقديرنا المسؤولية تقع على الجميع، كلٌّ يتحملبمقدار. ولعلّ أظهر ما توجه له أصابع الاتهام والمسؤولية جملة المواقفالشخصية والعلاقات الشلليّة التي أضرت بالمسرح وجمالياته، وتراكم الأخفاقاتالإدارية المتكررة لسياسات غير مدروسة تخلو من المنهجية، وعند هذه اللحظةنستطيع الاستشهاد بمسرحية المعرّي يعود بصيرا لأحمد عبد الملك، إنّها خيرمثال يجسد الفجوة الحاصلة بين مؤسسات الدولة والمجتمع في مجتمعات الخليج.(43)
لهذا يتفاقم شعورنا بأنّ المسرح يتراجع وأننا لا نتقدم معه خطوة، وأن ممارستنا للعملية التجريبية ما تزال تتخبط وتعاني من استهجان يشترك فيه المجتمع، ونخبة من (المتمسرحين) غير أولئك الذين تلقوا التجريب من منابعه الأصلية بجهودهم الذاتية.
في ظل ما سبق يظهر أمامنا الأزمة المعاصرة التي يعاني منها المسرحيون الشباب، إنهم في أزمات (فنية ووجودية واجتماعية وسياسية) متصاعدة. كما أن تأزم إنساننا العربي من السياسات الحاكمة في بلاده والتي تجعله في توتروغضب وشعور متفاقم بالقهر، تعطي للتجريب فهما آخر، بالضبط كما أعطت لمسرح العبث ممارسة خاطئة. وفي ظل هذا السياق ننظر إلى جهود الرواد بذات أهميةكبيرة، لكن المؤسف أنها اجتهادات لم تأخذ نصيبها من التأسيس العلمي. صحيح هناك أبحاث أكاديمية كُتبت عن جيل الرواد، لكنها ظلت أبحاثا لم تقدم لنانظرية فنية متكاملة، يتلازم فيها الفكر الفلسفي والموقف الثقافي الإنساني من الكون ومنظومة القيم الاجتماعية والسياسية. لهذا غاب المنهج التحليلي الملازم للنظرية، وهو منهج ينطلق من صُلب الحراكين الاجتماعي والسياسي،وليس من المجلدات ولا من تجارب الآخرين. وأوضح مثال دال تمثل في توظيف بعض تجليات المسرح الملحمي في مسرحنا العربي؛ نتيجة لأوضاع الوطن العربيالسياسية والأيديولوجية، متناسين أو غافلين عن جماليات التقنيات الفنيةالتي وضعها برتولد بريخت لمسرحه الملحمي معتقدين أن توظيف بعضها أو كلهاشأن تجريبي يخص الفن وحده، في حين أنه يصعب تجاهل مخرجات الواقع الاجتماعيالعربي الذي باتت تقنيات المسرح الملحمي قديمة بالنسبة إليه لارتباطها فيمنشئها الأساسي بظروف سياسية بحتة قد تغيرت اليوم. ولهذا سوف تظل بعضالكتابات تدور بنا في فلك الأسطورة أو التأثر بالنظريات الغربية وهو تأثرواقع لا محالة، أما في أَضعف الأحوال فسوف يتكرر السؤال التقليدي: لماذا لم يعرف العرب المسرح في تاريخهم الحضاري الطويل؟
وعن البدايات يمكن حصرها في ثلاث محطات عربية، تتالت بعدها التجارب، والتي سنشير إلى بعضها حسب مقتضيات السياق، أما المحطات الثلاث الأساسية فهي:
التجربة الأولى أعلنها مارون نقّاش (1817-1855م) (*) وجهده التاريخي فيتأثيل المسرح كظاهرة اجتماعية نهضوية في ثقافتنا الملتبسة بالحداثة ومظاهرالتمدن من ناحية، وتأزم الكلام القديم عن الأصالة والمعاصرة أو الذاتوالآخر من ناحية مقابلة، وكأنه لزم على العربي أن يحمل هذه الثنائيات ضمنجديته التي ينوء بحملها!(*) والتجربة الثانية الهامة هي تجربة (أبي خليل القباني (1833-1903م) الذي يُعدّ نموذجا صارخا للتدليل على جدلية العلاقةالملتبسة ما بين المثقف التنويري والسلطة المتنفذة في الدولة. أما التجربةالثالثة فتنسب بحسب كل من كتب عن الريادة التاريخية للمسرح العربي في مصرإلى يعقوب صنوع (1870-1872م)(44)
هذا هو مشهد البدايات تاريخيا. وإلى جانب هذا الوضع السوسيوثقافي انتشر عددمن البيانات المسرحية التي يمكن أن تضاف إلى خطى تكوين البدايات؛ تقاطعالا تجاوزا، محاولات تدّعي التأسيس لأطروحات جديدة، لكننا من حيث عمقهاوجوهرها نراها تتصل بالتأصيل وبتجديد البحث عن هوية مسرحية عربية خالصة(*). وتلك الأطروحات هي:
بيان مسرحي رقم واحد لعصام محفوظ 1969م، بيانات لمسرح عربي جديد لسعدالله ونوس 1970، البيان الأول لجماعة المسرح الاحتفالي 1979م، بيان مسرح الحكواتي اللبناني لروجيه عساف 1979م، نحو كتابة مسرحية عربية حديثة لعزالدين المدني 1981م، البيان التأسيسي لمسرح الفوانيس 1984م،(45) ويمكن إضافة بيانات أخرى تتقاطع مع البيانات الستة السابقة: كالبيان الوثيقة الذي تقدم به زكي طليمات إلى دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل في الكويت 1958م،وبيان قالبنا المسرح لتوفيق الحكيم 1967م، وبيان مسرح السامر الشعبي أو نحومسرح عربي ليوسف إدريس 1974م، وبيانات مسرحية لسامي الجمعان(46)
على ضوء ما سبق يسهل قراءة المسرح الخليجي والتأثيرات العربية والأجنبيةالتي تأثر بها. في دراسته المعنونة (المسرح الخليجي تأثره بالتيارات المسرحية عربيا وعالميا) يرصد لنا الباحث محمد حسن عبدالله ظاهرة التأليف المسرحي لدى عدد من الكتّاب الخليجيين، متتبعا بدقة التأثيرات العربيةوالعالمية في التأليف المسرحي الخليجي، مسجلا حول تلك السوسيو ثقافيةوالسوسيولوجية بعض الملاحظات المبكرة، نوردها كالتالي:
أولا: استطاعت الحركة المسرحية وهي تعبر عن تطلعها الفني أن تنتقل «بين إبسن وبيك وكاسونا وتشيكوف وبين أسماء معاصرة هي أدخل في المسرح التجريبي ومحاولات التحديث»(47)
ثانيا: من التأثيرات التي انعكست بشكل مباشر في بعض النصوص المسرحية «مبدأالتأليف الجماعي أو الورشة المسرحية» ويضرب مثلا بمسرحية (دار) التي ألفهاجماعيا أعضاء فرقة المسرح العربي بالكويت.(48)
ثالثا: استلهم الكتاب الخليجيون التراث كقناع سياسي فعادوا إلى ألف ليلةوليلة ينهلون من منبعها الثري وينسجون نصوصهم من حكاياتها بالإضافة إلى توظيفهم للتراث الشعبي الخليجي، «لكن اتجاه كتّاب المسرح الخليجيين يختلف كثيرا: إن شهرزاد –عندهم- أو الحكايات التي ترويها، لا تنتمي إلى تأملات الفكر وقضايا الوجود، بقدر ما تجسد صراعات المجتمع، ومشكلات التطور، ومواجع السياسة»(49)
رابعا: عرف الكتّاب ظاهرة الإعداد فتدخلوا حسب مقتضيات البيئة الاجتماعيةبالتعديل لتطويع فكرة العمل الأصلي لتتناسب والدلالات الاجتماعية أوالسياسية والفنية، وفقا لما اكتسبوه من ثقافة وإطلاع على التيارات المسرحية العالمية والاتجاهات الفكرية المختلفة(50)
هكذا، واتكاء إلى ما سبق، سننتخب للدراسة نصّا للمسرحي حمد الرميحي. مبرراختيارنا لهذا الكاتب يصدر عن إعجاب لا نخفيه بمسرحه الذي تتقاطع بعض اشتغالاته الفنية مع اشتغالنا المسرحي الخاص. كما أن تجربة الجمع بين نصين مسرحيين واحد من المسرح العالمي والثاني من البيئة المحلية الخليجية،يستجيب لأزمة الإنسان المعاصر التي بدأنا عنها الحديث.
(*) حمد الرميحي وأزمة الإنسان المعاصر
يُعد الكاتب والمخرج المسرحي حمد الرميحي أحد الكتّاب المجددين في المسرح الخليجي (تأليفا، وإخراجا وإعدادا)(51). وسوف نتناول هنا مسرحيته (سجلات رسمية) التي دمجها بعملين مسرحيين هما (سترة من المخملين) للكاتب البلغاري ستانيسلاف ستراتييف(52)، والعمل الثاني مسرحية (المعاملة) للرميحي نفسه. مايشدّنا إلى الاهتمام بتجربة الرميحي عدد من المسائل المترابطة؛ أنّ الرميحي في جل نصوصه التجريبية لا يتحرر في لحظة الكتابة من ظاهرة الكاتب/ المخرج في آن، وهذه العلاقة الامتدادية تعزز من فكرتنا المسبقة أن التجريب هو اختبار للفكرة على أرض الواقع الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك الرميحي من أوائل الكتّاب الذين أقدموا على الكتابة التجريبية وفق رؤية ومنهج جمالي ينقلّ تلازمهما لدى آخرين يحترفون الكتابة والإخراج معا، وهذا ما يجعل لقراءة مسرحياته متعة مضاعفة، ولعلّ الاستثناء الوحيد البارز في اقتحام مغامرةالتجريب والذهاب بها إلى تخوم بعيدة المخرج المسرحي البحريني عبدالله السعداوي(53)
ضمن وقفة متأنية وقف الباحث محمد حسن عبدالله عند الكاتب حسين المسلم صاحب مسرحية (رصاصة داخل السوق 1991م)، قائلا: «إن هذه المسرحية تضع أمامنا قضيةشديدة الحساسية تتعلق بالخط الفاصل بين التأليف والإعداد…»(54)
والإعداد المسرحي عن عمل مسرحي مماثل لا يختلف كثيرا عن إعداد مسرحية عن جنس أدبي كالرواية أو القصة. فهو بالمعنى الواسع «عملية تعديل تجري على العمل الأدبي أو الفني من أجل التوصل إلى شكل فني مغاير يتطابق مع سياق جديد. وتشمل تسمية الإعداد مُختلف العمليات التي تتراوح بين التعديل البسيط لعمل ما، وبين عملية إعادة الكتابة بشكل كلّي مع الحفاظ على الفكرة»(55)
والنصّ المُعد عنه هنا هو نص يتمتع بحساسية عالية ومفارقات كبيرة. نجح الرميحي في تقديم عمل إبداعي مواز للنصّ الأصلي يتناسب والظروف الاجتماعيةوالأخلاقية لمجتمعات الخليج إلى حد معقول. والمقصود بالسياق هنا على وجه الدقة؛ نظرا لتعدد معاني السياق عند علماء اللسان والخطاب هو المحيط المادّي الاجتماعي والثقافي الذي يحيط بكل من المتلفظ والمتلقي، وفي هذا المحيط الذي يتم فيه التلفّظ، يتعرّف المتخاطبان أحدهما إلى الآخر/ أوالمتخاطبين كجماعة إلى أخرى، ويستطيعان أو يستطيعون استدعاء الخبرات المعرفية المختلفة كلّ حسب ثقافته كمُعين لتفسير وضع ما، أو لإبداء رأي حولموقف سياقي ما.
فما النصّ؟ وما عتباته؟ وما الكفايات التي يمكن الخروج بها بعد قراءته؟
يُمثل اختيار نص ما لقراءته قراءة تتجاوز القراءة العادية عتبة أولى، بينماالقيام بإعداد نص ثان على النص الأصلي يعدّ تحديا كبيرا ومفازة قد لا يسلم من مخاطرها أحد. فالذي يجري في هذه الحال أشبه بالكتابة على الكتابة، ووضع نقش جديد على نقش قديم. إنّها محاولة لتخليد أثر لا ينبغي أن يتصل بأثرسابق عليه. وليس بالضرورة أن يعني ذلك محو الأثر الأول من الوجود.
1-1: عتبات النص
ماذا يحيط بسجلات رسمية نصّ المؤلف الثاني؟ نستطيع القول ببساطة يحيط بهسترة من المخملين؟ وعلى وجه الحقيقة يحيط به عتبتان: أولهما عتبة النصالأصلي (سترة…) بكل ما يحمله من بنية وما يحيل إليه من سياق وموجودات وأيديولوجيات. وثانيهما يحيط بالنص (سجلات…) نص (المعاملة)، إذًا أمامنانصان أصليان. وعلى العنونة (سجلات…) تتشكل لعبة التأويل.
تتألف واجهة الغلاف الخلفي للكتاب من كلمة للمسرحيّين حسن رشيد وصلاحالقصب. أما الغلاف الأمامي فيتكون من لوحة تشكيلية ملونة يتوسط اللوحة سيفوكتلة حمراء توحي بأنها قلب. وألوان اللوحة يتوزعها لون صحراوي وأخضر متدرجالدرجات اللونية. وفي أسفل الكتاب ثلاثة عناوين (أبو حيان ورقة حب منسية،سجلات رسمية، أبو درياه) أما اسم المؤلف فقد كُتب على يمين الصفحة. سنخطو خطوة إلى العنوان المقصود بالدراسة. في الصفحة الثانية والخمسين مطبوع العنوان التالي: (سجلات رسمية عن مسرحيتي المعاملة، حمد الرميحي، سترة من المخملين، ستانيسلاف ستراتييف).
إن المناصات التأليفية تشكل بحق العتبات المفضية إلى دواخل النصّين وخفاياهما، والمؤدية إلى اكتناه أسراره وكشف خباياهما. فالنص، أي نص، لايكون بمفرده، بل تحيط به من كل الجهات سلسلة متشابكة من العلاقات الثقافيةوالاجتماعية والتجارية، إنها على حد جيرار جينيت مجموعة الافتتاحيات الخطابية المصاحبة للنص أو للكتاب، من اسم الكاتب، والعنوان، والجلادة،كلمة الناشر، الإشهار، وحتى قائمة المنشورات المكلف بالإعلام، دارالنشر(56).
والظاهر أن لجوء حمد الرميحي إلى تسمية العمل بسجلات رسمية قد استوحاه منالنص الأصلي، بالإضافة إلى دفعنا كقراء تأمل العنوان الثالث (سجلات…) كعتبة تكشف في أثناء القراءة مدى إمكانية اشتغال العنونة على مصطلح المغامرة أو اللعب إن شئتم.
يفتتح العمل (سجلات رسمية) تركيبه البنائي مكونا من ثلاثة عشر مشهدا يسبقه اتمهيد وتعريف بالشخصيات الافتراضية. ينتظم الفصل الأول المقدمة و(8) مشاهد، بينما ينتظم الفصل الثاني (5) مشاهد المتبقية. إذًا من حيث التركيب فنحن أمام بناء تقليدي يراعي وحدة التركيب الأرسطية، من فصول ومشاهد، ولكنه يختلف معه في ترتيب وحدة الفعل، وفي الصيغة التي سيجري بواسطتها تقديم الأحداث، ودرجة مراعاة التقديم والتأخير.
لئن كان المؤلفان ستانيسلاف والرميحي راغبين في نقد آلة البيروقراطيةالمبثوثة في حياتنا الوظيفية نجدهما يحاصران شخصياتهما ببارقة من الأمل المأساوي. وقراءة (سجلات…) تجعل مغادرة الشعور بالقرف أو بالإحباط منآلية عمل القوانين وضغطها علينا مسألة صعبة طالما كان الإنسان مرحِّبابالمدنية وراغبا بالمجتمع المدني فعليه التعايش مع قوانينها الضاغطة. يتصرّف الرميحي على مستوى البناء تصرفا ذكيا، [لننظر الجدول رقم1]
الفصل الأول
حصة إيفان من المشاهد
حصة الرجل البدون م ش
حصة مبروك من المشاهد
الأول
الثاني
الثاني
الثالث
السادس
الرابع
الخامس
الثامن
السادس
السابع
الثامن
الفصل الثاني
الأول
الثاني
الأول
الثاني
الثالث
الثاني
الثالث
الثالث
الخامس
الرابع
الخامس
وبإجراء عملية حسابية صغيرة نصل إلى النتيجة التالية بالجدول رقم2
الظهور المستقل للشخصيات
إيفان
الرجل البدون
مبروك
3 مشاهد
لا يوجد
2 مشهدان
الظهور المشترك ش
إيفان ومبروك
إيفان والرجل البدون
مبروك والرجل البدون
5 مشاهد
لا يوجد
5 مشاهد
نلاحظ أن عدد المرات التي اشترك فيها إيفان ومبروك معا للدفع بالأحداث جاءعددها مساويا لعدد اشتراك مبروك مع الرجل البدون، وبالمقارنة مع الجدولالأول فإن حصة الرجل البدون من مجموع المشاهد المستقلة تساوي صفرا. لنسألمثلا: ماذا لو استغنى الرميحي عن هذه الشخصية؟ هل كان غيابها سيؤثر علىالحكاية؟ أم أن الرسالة الأيديولوجية التي أراد المؤلف إيصالها ما كانلتكون إلاّ بظهور الرجل البدون الذي جاء حواره بسيطا وعاديا ومناسباللشخصية؟
والناظر إلى الجدولين يلحظ كيفية بناء المسرحية، إذّ عمد الرميحي إلىافتتاح المسرحية بمجموعة من الممثلين يدخلون من عمق المسرح لتأدية أدوارمتعددة ومتداخلة حسب تقنية المسرح داخل المسرح فيرتدون ملابس لاعبيالسيرك، ثم يقاطع الرجل البدون صوت المعلق بعبارة «الحكومة ما بتسوي شيء» [ص58]، يلي ذلك يُخصص مشهد يسرد حكاية إيفان ثم مشهد يسرد حكاية مبروك، معظهور للرجل البدون مرة، ومشاركة في الحوار بين إيفان ومبروك مرةوهكذا…إلخ.
والظاهر من مجموع الأحداث إنها متصلة لكن آلية عرضها لا تبدو كذلك. فكل حدثيجري للشخصية نشعر معه بالتشابه، إنّما كيف أخبرنا بها الرميحي خلال العملفهذا ما تحصلنا عليه في النص من الجدولين، والمقولة النهائية إنّمايُخبرنا بها العرض الحي للمسرحية.
ولمّا كان الباحث فرحان بلبل قد أشار إلى أن مرحلة النصف الثاني من القرنالعشرين سار الكتّاب العرب على نهج مناقض لنهج كتاب النصف الأول منه. فقدأعلنوا، بصريح البيانات أو بصريح التأليف، أنهم يرغبون في تحطيم أصولالدراما التقليدية… وقام هذا النهج على التقيّد بأركان الدراما التقليديةبعد تحطيم ترتيب وتتابع هذه الأركان. فقد وجد الكتّاب العرب في البريختيةوالعبثية والسريالية وغيرها من ثورات كتاب المسرح الأجنبي على التقليدية،مساعدا لهم في إعلان تمردهم على تقليدية البناء المسرحي(57) واستنادا إلىذلك يكتب الرميحي في التمهيد قائلا: «إن مسرحية سجلات رسمية من مسرحياتالكوميديا السوداء. تحاول كسر الشكل التقليدي للنص الأدبي المسرحي وللغةالمسرحية أحادية النمط، في تجربة مزج وتزاوج وتداخل وتقابل بين مسرحيتين– نصين-، مسرحية من المسرح العالمي، ومسرحية خليجية عربية، في رؤية تشكيليةمسرحية واحدة ذات مضمون ومقولة واحدة»(58)، ومما يؤخذ على هذا التمهيدإعلان المؤلف الصريح تصنيف المسرحية وانتمائها إلى الكوميديا السوداء. إذكان من الممكن الاكتفاء بتصنيف البناء كالقول مسرحية من ثلاثة فصول مثلا… إلخ، لجعل المتلقي متلقيا إيجابيا ومتفاعلا مع مساحة التأويل الممكنة أومساحة المغامرة التي يخوضها الكاتب والنص معا.
انطلق فهمنا لحداثتنا العربية من بديهية تقضي بارتباط الحداثة والانتقال منطور حياة ما قبل الكتابة والتدوين إلى حياة مؤسسات المجتمع المدني وأزمةالإنسان العربي المعاصر، وحقه المشروع في حرية الاعتقاد والتعبير، ضمنقوانين تكفل له العدالة والمساواة. في انتخاب الرميحي لسترة من المخملينوبوضعية إيفان في علاقة مقابلة مع مبروك مبارك البرك، وهما القادمان منبيئتين مختلفتين ثقافة وتاريخا، لكنهما يمران بظروف سوداء متشابهة لدرجةيصدق معها القول المأثور كأنهما وجهان لعملة واحدة، ما يذهب بالنص المعاملة / سجلات رسمية، إلى إمكانية خلق مسرح محلي بلغة عالمية، أو تأسيس تواصلعالمي بمسرح محلي. فالمسألة هي الإنسان في كل مكان، أو كما يقول إيفان «ليست مسألة رسوم.. إنها مسألة مبدأ. إن في الوثائق خطأ وتزويرا-ص83»، فكيفتُصدق الوثائق والسجلات ويُكذَّب الإنسان؟! وهي البديهية نفسها التي يعبرعنها الحوار التالي:
الموظف: أنا أقول لن تستطيع أن تُكذِّب سجلات الحكومة.
ناصر: سجلات الحكومة من صنع البشر ومن الممكن أن يحدث فيها خطأ.
مبروك: أقسملك بالله العظيم إني ما رحت الدورة اللي تقول عنها. [ص94]
إذا عدنا إلى مسرحية بودرياة، وفيها تتصادم أقدار أهل القرية مع القوي فوققدرة الإنسان العادي، عبر حكاية تتقنّع بتوظيف الأسطورة، ينقلنا الرميحيفيها فعل القراءة من حيز الأسطورة والتراث الحكائي الشفاهي إلى حيز آخر،يتبدى في منظومة السلطة، وهذه من الجوانب المضيئة التي بالمسرحية. لقد نقلالمؤلف السلطة من يد الحيوان إلى يد الإنسان، وبدوره قام الأخير يوظفهالحماية سلطته المتنفذة بلا حدود تجاه أهل القرية. نجد التصادم أو الصدام فيسجلات رسمية أكثر فُحشا واغتصابا لكرامة العقل البشري بما يجعل إرادتهالطبيعية تتعرض يوميا للهتك وللتعذيب المعنوي بمجرد هيمنة النظامالبيروقراطي الذي تُجيد تأديته المؤسسة الرسمية. فأيهما أشد فظاعة وإجراما؛أن يتحول الإنسان بفعل السجلات الرسمية وقواعد المراقبة والضبط إلى غنمةأو إلى دمية أو يُصاب بالجنون، أم يتحول إلى إنسان مصاب بالعجز إزاء مجهوليظن أن قوىً خفية توجه مساراته؟ في الواقع كلا الموقفين فظيعان ومرعبانويحيلان إلى شكل من أشكال الجحيم.
1-2: أصل الحكايتين
أ. سترة من المخملين
تبدأ المسرحية بحادث يومي ألفه الناس في ظل الحكم البيروقراطي حتى لم يعديثير دهشة أحد ولا استغرابه لكثرة وقوعه. فالأستاذ الجامعي إيفان أنتونوفيذهب إلى حانوت بيع الملابس ليشتري سترة له فلا يجد سوى سترة واحدة فيضطرإلى شرائها. وتبدأ مأساته. كانت السترة ذات وبر طويل فراح الناس يسخرون منهومنها. يحاول إيفان قص وبرها بالمقص فلا يفلح. يذهب إلى قسم قصّ الشعرويطلب من الحلاق أن يقصّ وبرها فيظن الحلاق أن به مسا من الجنون. فمن يقصشعر سترته عند الحلاق؟ ويطرده الحلاق فيذهب إلى مزرعة تعاونية ويجزها حيثيجزون الغنم. ولما كان جز السترات غير مسموح به فإنهم يسجلون في سجلاتهمأنهم جزوا غنمة خاصة ويسجلون اسم صاحبها وعنوانه ورقم هويته الشخصيةومهنته. وبعد زمن يستدعى الأستاذ بإشعار رسمي ليدفع الرسوم المستحقة علىتربية الغنمة ويذهب مع صديقيه إلى حيث ينبغي أن يذهب كي يوضح الأمر فيدخلونإلى متاهة عالم يجري فيه التعامل بالوثائق والأرقام ولا مكان فيه للإنسانأو للمنطق الإنساني. يظن الإستاذ الجامعي أن المسألة حلها بسيط لكنه يكتشفمع صديقيه أنها أعقد من أن تحل ببساطة، فالمسألة مدونة في سجلات رسمية ولايجوز اللعب مع الوثائق والسجلات. يرفض الأستاذ التنازل عن مبادئه ويتعبرفيقا الأستاذ من السير وراءه في سبيل إثبات أن السترة ليست غنمة، وتنهض منبين الموظفين فتاة رقيقة المشاعر تخاطر بمستقبلها في سبيل إظهار الحقيقةالتي يعرفها الجميع ويطمرونها بعشرات الأخطاء كل يوم وتمضي معه إلى أن يتضحالأمر. يخاف البيراقراطيون من تفاقم المسألة فيصدر أمر من فوق لحلالمسألة. فتذبح غنمة وهمية في المؤسسة بأمر من النقابة إذ يحتفل بعامل بلغسن التقاعد ويمثل المدعوون دور من يأكلون اللحم وهم لا يأكلون شيئا وتكونحيرة العامل المحتفى به أكبر من أن يستطيع إخفاءها. ويغمر المحتفلون الظلامأما الأستاذ الذي ينظر إلى هذه الجوقة من المنافقين ساخرا فينظر إلى سترتهبإعجاب ويهنئها لعودتها سترة حقيقية ثم يرتديها باعتداد. تنتهي الحكايةبمواصلة بحث إيفان عن الحقيقة.
ب. المعاملة / سجلات رسمية
تبدأ المسرحية بحادث يومي يجري في مكتب يتبع لمؤسسة حكومية. فالموظف مبروكموظف بسيط يحلم كحال المواطن العادي الخليجي الحصول على الترقية وتملك قطعةأرض وبناء بيت والزواج ممن يُحب. ومبروك إنسان حسن النوايا تجاه الناسجميعا والموظفين. يعمل بجد لإرضاء مديريه والمسؤولين الكبار في المؤسسةوأصحابه. وبينما يغرق الموظفون أمثال جاسم العسم وزايد والمدير والوزير فيتغليب مصالحهم الشخصية على مصلحة العمل والوطن؛ فيتاجرون في بيع الأراضيواستقدام اليد العاملة واستخراج التأشيرات ومأذونيات العمل ويقبضون فيالشهر مبلغا أكبر من راتب وزير ويقضون أكثر وقتهم خارج المؤسسة وتخليصمعاملاتهم الخاصة. ونظرا لطيبته وشدة إخلاصه وتفانيه في العمل يتمسكبالمبادئ الأخلاقية وينبري للدفاع عن ضرورة احترام السُلم الوظيفي لمن يشغلالوظيفة؛ وقد أظهر مبروك شجاعته حينما اعترض على مديره ترشيحه مساعدالمدير إلى اللجنة الفنية وهو كما يصفه برجل إدارة لا يفهم في المسائلالفنية وكان الأجدر ترشيح حمد أبو ربيعة للقسم الفني لدرايته به. لكنالمدير الذي لا يجهل تلك الحقيقة لا يستطيع ترشيح الموظف المناسب للمكانالمناسب لأن معالي الوزير الذي يرأس اللجنة لا يحتمل وجود حمد في ذلكالمنصب. ينتظر مبروك من المدير ترقيته وترفيعه إلى مسمى رئيس قسم. يصل كتابالترقية وتبدأ مأساته. يُستدعى مبروك من المدير ليتهمه بالكذب، لتتكشف لناحكاية قديمة مفادها لما عبأ مبروك ذات يوم استمارة الترشح لدورة تدريبيةخارجية سجّل بالاستمارة أنه قد أخذ دورة خارجية سابقة وقانون الوزارة لايسمح بخروج الموظف في دورتين متشابهتين. لكن مبروك ينفي ذلك ويتهم رئيس قسمالبعثات والدورات بالكذب، فيحال مبروك إلى التحقيق. يصر رئيس القسم علىرأيه مدعما موقفه بالتذكرة التي تسلّمها مبروك فيوضح له زميلاه في العمل أنمبروك قد تسلّم التذاكر لكنه لم يسافر وقد دخل إلى المشفى في يومها. يذهبمبروك مع صديقه ناصر إلى مَن هو أعلى ويلتقيان بالموظف الذي يقترح له مخرجاهو الاعتراف بصورة وهمية أنه قد أخذ دورة، لكن مبروك يرفض التنازل عنمبادئه. بعد زمن يستجيب مبروك لمتطلبات المرحلة ويتحول من موظف بسيط وعاديإلى سمسار يتاجر في الأسهم وتتسع علاقاته مع الآسيويين فيدخل إلى مكتبه آدمالفلبيني حاملا بيده دمية كبيرة في حجم الرجل وجهاز آنسر ماشين وتلفونيضعهما مبروك على كرسي الوظيفة للرد على المتصلين حتى يفرغ هو لأعمالهالخاصة ولدرجة يرفض معها الترقية كارها لوظيفة رئيس قسم وللسجلات الرسمية. يخاف البيروقراطيون في الوزارة من انتشار خبر الدورة التي صارت دميةوالدمية التي ولدت فيلا، فيسارع المسؤول الكبير دفاعا عن مؤسسته إلى طيصفحة المسألة بالتزوير في أوراق جديدة.. وتنتهي الحكاية أن صار مبروك منكبار تجار العقار في الخليج بعد ترك الوظيفة وتاجرا من كبار تجار السلاح فيالشرق الأوسط.
(*) على سبيل الخاتمة
الموظف لإيفان: (يفتح صفحة في الدفتر) هل هذا توقيعك، رقم هويتك، وتاريخها 7 يونيو 1967م، إذًا من الأفضل أن تدفع الرسوم. [ص82]
الموظف لمبروك: تفضل اقرأ معيمبروك مبارك براك موظف أرشيف رقم 6/73 منحدورة الأرشيف إلى المملكة المتحدة بتاريخ شهر 7/1967 وهذا توقيع استلامالتذاكر. هل هذا توقيعك؟ [ص93]
في قراءتنا الأيديولوجية يكتسب خروج مبروك بعدا واقعيا يحيل إلى وجوداختلال عميق في الحادثة التي ننوء بحملها. فهل جاءت الأرقام السابقة بالمتناعتباطية؟ أشك في ذلك. وببراءة نسأل: هل رأى أحدنا أورست وهو يقتل قاتلأبيه إجست أو شاهده وهو يقتل أمه كلومنسترا؟ وهل ضبط أحدنا هاملت ينقضبضربة سيفه على قاتل أبيه؟ وهل عثر أحدنا على سطر يرسم تفاصيل قتل قابيللأخيه؟ وهل رأى أحد منا كيف أخذت أنتيجونا تدفن أخاها فولونيقوس الذي أقسمالملك كريون بعدم دفنه حسب الشعائر الدينية والملكية؟ أكاد أجزم أن لا أحدمنا قد رأى شيئا من تلك الأحداث؟ لكننا في مسرحية سجلات رسمية تعرّفنا كيفيصبح المواطن فاسدا وغير آبه لا بالقوانين ولا بإنسانيته.
ــــــــــــــــــــ
الإشارات والنقول:
(*) الظاهر كما يدل ظاهر العنوان الوقوع في لبس قد يؤدي إلى نتائج غيردقيقة، فجماليات التجريب لا نتناولها هنا إلاّ في الجانب المتعلق بالتأليفالمسرحي فقط.
(1) د. عبدالله محمد الغذامي، حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية. ص38، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء، 2005م.
(2) الغذامي (د. عبدالله محمد) ، نفسه، ص39.
(3) د. شكري محمد عياد، المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين. ص19-23، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 177،الكويت، 1993م.
(4) د. نجيب العوفي، الأدب المغربي المعاصر وتحدي الحداثة: تأملات في واقعالتحدي وواقع الاستجابة، المركز الثقافي الملكي، ورقة نقدية ألقيت ضمنفعاليات الأيام الثقافية المغربية أيام عمّان عاصمة للثقافة العربية،للفترة من 10/13/ فبراير 2002م
(5) نقلا عن: د. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلىالتفكيك. ص 81، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،العدد 232، الكويت، 1998م.
(6) د. إبراهيم عبدالله غلوم، المسرح والتغير الاجتماعي في الخليج العربي. ص 6، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 105،الكويت، 1986م.
أتفق مع الباحث فيما ذهب إليه بشأن احتفاء مسرحنا بالمتغيرات الاجتماعيةوالاقتصادية احتفاءً ليس له ما يُشابهه إلى اليوم. فحب المسرح معناه فيمعناه العميق في المغرب يرجع لأسباب سياسية على حد تعبير الباحث حسنالمنيعي في كتابه الهام أبحاث في المسرح المغربي [ص121] منشورات الزمن، ط2،الدار البيضاء، 2000م، ولا يخفى هذا العمق عن البدايات الشبيهة للمسرح فيلبنان بعد الاستقلال عام 1948م وكذلك في تونس. حيث يشير مَن كتب عن المسرحفي هذين البلدين الشقيقين إلى روح المغامرة والإقدام لدى الفرق المسرحيةالجادة التي أخذت على عاتقها تكريس المسرح في مجتمعاتها وتعميق حضورهومناهضته للاستعمار. ويمكن التمثيل بذلك من كتاب المؤلف جان داود عن المسرحفي لبنان وكتاب محمد المديوني عن المسرح في تونس برقمي السلسلة (4و12) الصادران عن الهيئة العربية للمسرح، ط1، الشارقة، 2009م
(*) ماذا حدث يوم 11 سبتمبر 2001م؟ هجوم بالطائرات استهدف مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع في فرجينيا.
(*) إعصار جونو: يعد أقوى إعصار مداري يضرب الشواطئ المطلة على بحر العربمنذ عام 1977م، وقد ضرب الإعصار سلطنة عمان في 3 يونيو 2007م
(*) راشيل كوري 1979-2003م : أمريكية يهودية وعضوة بحركة التضامن العالمية. سافرت إلى قطاع غزة بفلسطين أثناء الانتفاضة الثانية حيث قتلت بطريقةوحشية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي عند محاولتها إيقاف جرافة عسكريةتابعة للقوات الإسرائيلية كانت تقوم بهدم مباني مدنية لفلسطينيين في مدينةرفح في قطاع غزة.
(*) 25 يناير 2011م: يوم الثورة الشعبية البيضاء في مصر ويصادف يوم الشرطة. خاض الثورة حركة شباب 6 إبريل وحركة كفاية وشباب المجتمع الافتراضي (الفيسبوك)
(7) د. إبراهيم الخطيب، نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس. ص180، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، بيروت، 1982م.
(8) د. إبراهيم الخطيب، نفسه، ص180.
(9) د. حسن المنيعي، المسرح الحديث إشراقات واختيارات. ص13، منشورات المركزالدولي لدراسات الفرجة، ط1، رقم السلسلة (6)، المغرب، 2009م.
(10) د. جابر عصفور نشرت الورقة في فصول مجلة النقد الأدبي. ص8، الهيئةالمصرية العامة للكتاب، عنوان العدد المسرح والتجريب، الجزء الثاني، المجلدالرابع عشر، العدد الأول، القاهرة، ربيع 1995م.
(11) من الاستحالة بمكان الإحاطة بكل ما كُتب عن التجريب والاكتشافات التيظهرت في ميداني الدراما والمسرح. أو تمثل آراء المرحبين بالتجريب والداعينله أو المهاجمين والرافضين له. لكن من المسلّم به هو أن لفظة التجريب لاتنفصل في تقديرنا عن لفظة اختبار الذات المسكونة بهواجس الحرية ومدلولاتهاالمتجددة. فالتجريب والحرية من هذه الزاوية لا يعنيان القطيعة مع الماضي أوالمغالاة في التطرف، إنّما يعنيان في تقديرنا قدرتهما على الامتلاءبالإمكانيات المتاحة أو الممكنة، ولا يقتصر فعل التجريب الحرّ على مبدعالنصّ بل يشمل ذلك المخرج والممثل وطاقم العمل من الفنيين والجنودالمجهولين الذين يقفون وراء إخراج العمل. فلكل مشروعه الخاص وطموحه المشروعالذي يملك معرفة عنه وثقافة واسعة تتفق مع ثقافة الراوي الواسع المعرفة أوأنها تتصاحب وتتجاور مع الرواة الآخرين. وفي ظل هذا الطرح هناك كتّاب لهممشروعهم التثويري الخاص باللغة التي يستعملونها لإثراء فضاءات التجريب وهميؤسسون أبحاثهم على التراث كتجربة المسرحيبن عز الدين المدني من تونسوالطيب الصديقي من المغرب مثلا، فالتجريب والحرية لفظتان تعنيان انتقاءالقيم والعناصر الجديدة وفحصها وتحليلها ثم اختبارها بهدف ابتكار الجديد أوإدماج القديم في الجديد واخضاعهما في معامل التجريب والورش المسرحية.
(12) د. ميجان الرويلي، د. سعد البازعي في كتابهما دليل الناقد الأدبيإضاءة لأكثر من سبعين تيارا ومصطلحا نقديا معاصرا، حيث يضيئان معاني النصالمختلفة التي جاء بها البنيويون، المركز الثقافي العربي، ط3، الدارالبيضاء، 2002م
(13) عبد الرحمن المناعي، محمد العثيم، الشاعر علي الشرقاوي مسرحيا، عبدالعزيز السريع، إسماعيل فهد إسماعيل، حمد الرميحي، حسن يعقوب العلي،إسماعيل عبدالله، غانم السليطي، أحمد عبد الملك، سالم الحتاوي، باسمة يونس،حمد الشهابي، عبد الكريم جواد، ناجي الحاي، أحمد راشد ثاني، سعيد إسماعيلمبارك، عمر غباش، موسى أبو عبدالله، مرعي الحليان، عبد الرحمن الضويحي،سليمان الخليفي، عبد الحسين عبد الرضا، محمد السريع، صالح موسى، حسينالصالح الحداد، صقر الرشود، حسن رشيد، عماد محسن الشنفري، صالح كرامة، جمالسالم، محمد عواد، نجيب الشامسي، عبد العزيز السماعيل، عقيل سوار، فهد ردةالحارثي، سامي الجمعان، يوسف محسن سعيد، بدر محارب، حبيب غلوم، عبداللهصالح، وهلال البادي.
(14) آن أوبرسفلد، قراءة المسرح، ترجمة مي التلمساني، ص21، مركز اللغاتوالترجمة أكاديمية الفنون، ط1، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي،وزارة الثقافة، مصر، 1982م
(15) د. محمد الكغاط، المسرح وفضاءاته، ص173، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، الدار البيضاء،1996م
(16) عبد الرحمن المناعي، يا ليل يا ليل ومسرحيات أخرى، ص5، الطبعة (1)، السنة 1984م.
(17) د. عواد علي، المعرفة والعقاب قراءات في الخطاب المسرحي العربي. ص239، 240، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 2001م
(18) ص14، نقلا عن: برتولد بريخت، الأرجانون الصغير. نظرية برتولد بريخت فيالمسرح الملحمي. ترجمة وتقديم فاروق عبد الوهاب، مكتبة المسرح سلسلة تصدرمن مركز الشارقة للإبداع الفكري برعاية الشيخ الدكتور سلطان بن محمدالقاسمي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.
(19) عبد العزيز السريع، لمن القرار الأخير مسرحية من ثلاثة فصول. ص9، دائرة الثقافة والإعلام، ط1، الشارقة، 2004م
(20) صقر الرشود، الحاجز مسرحية من فصلين. ص17، سلسلة مسرحيات كويتية (10)،رابطة الأدباء بمساندة مركز البحوث والدراسات الكويتية، ط1، الكويت، 2005م
(21) د. ماري إلياس و د. حنان قصاب حسن، المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحاتالمسرح وفنون العرض عربي-إنجليزي-فرنسي، ص415، مكتبة لبنان ناشرون، ط2،بيروت، 2006م
(22) شمّا. عمر غباش، إعداد مونودرامي ناجي الحاي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2004م
(23) مليونير بالوهم. محمد بن سعيد الشنفري، وزارة التربية والتعليموالشباب، شؤون الشباب المديرية العامة للنشاط الثقافي والاجتماعي، ط1،عمان، 1990م
(24) عنده شهادة. عبد العزيز السريّع. سلسلة مسرحيات كويتية (9)، رابطةالأدباء بمساندة مركز البحوث والدراسات الكويتية، ط1، الكويت، 2004م
(25) عتيج الصوف ولا جديد البريسم. حسين الصالح الحداد، سلسلة مسرحياتكويتية (4)، رابطة الأدباء بمساندة مركز البحوث والدراسات الكويتية، ط1،الكويت، 2004م
(26) اغنم زمانك. عبد الحسين عبد الرضا. سلسلة مسرحيات كويتية (8)، رابطةالأدباء بمساندة مركز البحوث والدراسات الكويتية، ط1، الكويت، 2004م
(27) د. عبدالله إبراهيم، المتخيل السردي مقاربات نقدية في التناص والرؤىوالدلالة. ص108، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، الدار البيضاء، 1990م
(28) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، سبق ذكره، ص415
(29) د. نهاد صليحة، المسرح بين الفكر والفن، دار هلا للنشر والتوزيع، ط1،مصر، 2009م تقول: لقد جعل أرسطو كل شيء في الكون يتحرك نحو غاية مسبقةمحسوبة لا دخل للإنسان فيها، وعليه أن يطيع قوانينها المطلقة. أي أن أرسطو– مثله في ذلك مثل أفلاطون- قد سعى من خلال فلسفته إلى تأكيد أهمية البعدالمطلق الثابت في التجربة الإنسانية… [ص48] وهكذا جعل أرسطو من الأدبتابعا للفلسفة أو وسيلة لتلقين النظرية الفلسفية إلى العامة… أي أننظريته في الأدب والدراما ما هي في حقيقة الأمر إلا نظريته في توظيفالدراما لخدمة وترسيخ تصور فلسفي يرسخ بدوره تصورا اجتماعيا/سياسيا أخلاقيا [ص51-52]
(30) إذا أردنا الدقة سنجد أن أول ابتكار للتجريب جرى على يد إسخولوسباكتشافه للمثل الثاني ثم جاء سوفوكليس وأضاف ممثلا ثالثا. انظر: د. هناءعبد الفتاح، أصول التجريب في المسرح المعاصر النظرية والتطبيق، فصول مجلةالنقد الأدبي. سبق الإشارة إليها، ص36-58
(31) عنوان كتاب للدكتور عبد الرحمن ياغي، شركة كاظمة للنشر والترجمةوالتوزيع، ط2، الكويت، 1987م يستعرض فيه الباحث جهود الرواد ويقف ثلاثوقفات عند مسرحية بجماليون للحكيم ومسرحية مجنون ليلى لشوقي ووقفة مخصوصةعند المحاولات الأردنية في الحركة المسرحية. وإذا كان الباحث يستعرض صنيعكل تجربة حسب مقتضيات العنوان فإنّ الجزء الأول للكتاب المخصص للعمليةالمسرحية هو ما يهمنا. عبر الحوار الذي يجري ما بين المخرج رتشاردبولسكافسكي حول فن التمثيل مع فتاة حسناء في الثامنة عشرة من عمرها نتحصلعلى بعض الالتماعات. ليس في الحوار ما يتصل بتأليف النص اتصالا مباشرا ولكنجملة بولسكافسكي وهو يرد على الفتاة حين قالت له: «لقد جعلت المسرح يبدوشيئا ضخما كبيرا مهما جدا وعظيما» فقال لها: «نعم عندي أن المسرح سرّعظيم… السرّ الذي تلتحم فيه الظاهرتان الأبديتان التحاما يذهل العقول: حلم الكمال وحلم الأبدية.. إن مثل هذا المسرح ليستحق أنّ يقدّم الإنسان منأجله حياته كلها» (ص13)، في هذه الجملة بالنسبة إلى ما يتصل بجمالياتالتجريب، العروة والجوهر معا. وما كلماته أن «حب المسرح لا يكفي.. إذ من هوالذي لا يحب المسرح! إنه من أجل أن يشتغل الإنسان بالمسرح يجب أن يكرّسنفسه له.. وأن يقف عليه حياته كلها» (ص13)، لكلمات تتجه بالشعور الضمني إلىالكاتب أيضا، وليست حصرا على المخرج والممثل فقط. فالتلاحم الذهني بينالمخرج والمؤلف، وبين المخرج والممثلين، وبين العرض والمتلقين الذين يتلقونالعرض بدرجات متفاوتة ويتباينون في درجة الشعور والتأويل، جدل يثري المسرحوالثقافة والمجتمع معا.
(32) د. إبراهيم السعافين، نظرية الأدب ومغامرة التجريب، ط1، دار الشرق العربية للنشر والتوزيع، ط1، الجزء1، القدس، 1993م
(33) د. إبراهيم السعافين، نفسه، ص9
(34) أزمات الإنسان العربي المعاصر كثيرة وواسعة بحجم السماوات. ولكي لاندور في تعميمات سأحصر هذه الأزمات بحسب تقديرنا في: أزمة في المعرفةوإنتاجها. أزمة في التكوين السياسي. أزمة في ذهنية الوراثة الثقافيةالاجتماعية.
(35) المعجم المسرحي، سبق ذكره، ص300-301، ومن الأمثلة الدالة على تسميةمسرح العبث في أمريكا شارع Off Brodway ومن ثَمّ Off of Brodway وفيإنجلترا تدخل في نفس الإطار العروض التجريبية التي تقدم على هامش مهرجانإدنبرة أو ما يُطلق عليه بمسرح الحواف Fringe Theatre ، وفي اليابان أطلقتتسمية المسرح السفلي على حركة المسارح الصغيرة التي ظهرت في الستينياتوهدفت لخلق مسرح خارج إطار المؤسسة والاستفادة من كافة التيارات العالمية. واستنادا إلى هذه الصفة النِسبيّة نقول إن مدونة النص الوثيقة التي تقدمبها زكي طليمات لإرساء تقاليد موثقة للعملية المسرحية في الكويت قد جعلت منفن الارتجال المسرحي الذي كان طليعيا في زمنه مع محمد النشمي وصقر الرشودقد أصبح تقليدا قديما، على الرغم ما في هذا الفن من حيوية عالية وممارسةعملية متوهجة لفن التمثيل. وقياسا على ذلك يمكننا القول إن مسرحناالاجتماعي الخليجي كان وقت ظهوره حركة طليعية اتجه الى كتابته غالبيةالكتّاب المسرحيين الخليجيين، وظل ذلك المسرح موجودا بعناصره الثلاث،تأليفا وتمثيلا وإخراجا، حتى جاءت موجة التجريب المتأخرة التي نشهدها اليومفي المهرجانات المسرحية، على عكس الحياة الاجتماعية ولهذا دلالته المُربكةوالقلقة. فجل ما شاهدناه من تجارب مسرحية لا نراها قد أحدثت تغيرا جذريابالنسبة إلى ما كان سائدا قبلها. ولنا في بعض تجارب مهرجان الفرق المسرحيةالأهلية الخليجية في قطر 2010م، ومهرجان المسرح العماني الرابع 2011م خيرتمثيل على ذلك.
(*) وول ستريت. نعدّها انتفاضة ضد رأس المال والاقتصاديات العالمية التيأخلّت بنظام استقرار الحياة الاجتماعية والأخلاقية. وول ستريت شارع المالوالبورصة بمدينة مانهاتن في الولايات المتحدة الأمريكية ويعدّ الواجهةالرئيسية للسوق الأمريكي. أما حركة احتلوا وول ستريت فهي حركة شعبيةاجتماعية قادها عدد من المتظاهرين في مدينة نيويورك بالدعوة إلى احتلالالشارع لما يمثله من رمز وهيمنة على العالم وقد بدأت الحركة بمسيرة صغيرةفي 17/ سبتمبر/ 2011م. نقلا عن: موقع ويكيبيديا، الموسوعة الحرة والمركزالعربي للدراسات المسقبلية www.mostakbaliat.com بتاريخ 18/02/2012م
(36) نقلا عن: د. سعيد الناجي، التجريب في المسرح، ص13، دائرة الثقافة والإعلام، ط1، الشارقة، 2009م
(37) د. سعيد الناجي، نفسه، ص13-14
(38) د. سعيد الناجي، نفسه، ص13-33 بتصرفنا
(39) مسرح العبث. تستعمل صفة العبثي أو اللامعقول للدلالة على كل ما هو غيرمنطقي. أما كلمة العبث فتستعمل للدلالة على نوع من أنواع الكتابة المسرحيةظهر في الخمسينيات من القرن الماضي. جرى تصوير اللامعقول على المنصة بطرقمختلفة وأول مسرحية عبثية هي المغنية الصلعاء للروماني يوجين يونسكو، ثممسرحية في انتظار جودو للإيرلندي صموئيل بيكيت. للتوسع يُنظر: المعجمالمسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، سبق ذكره، ص303-306، وانظرأيضا مقدمة كتاب خمس مسرحيات طليعية، تأليف يوجين يونسكو، ترجمة وتقديمشفيق مقار، مشروع المكتبة العربية الدار القومية للطباعة والنشر وزارةالثقافة، ط1، 1966م
(40) حسن المنيعي، المسرح الحديث إشراقات واختيارات، ص14 -16، منشوراتالمركز الدولي لدراسات الفرجة، رقم السلسلة 6، ط1، طنجة، المغرب، 2009م
(41) من الظواهر الاستثنائية نستحضر عربيا تجربة المسرحي انتصار عبد الفتاح، بالإضافة إلى عبدالله السعداوي، وجليلة بكّار.
(42) د. سعيد الناجي، التجريب في المسرح، سبق ذكره، ص26 ويستطرد الناجي فيموقع آخر قائلا: «كانت الحداثة المسرحية جزءا من حداثة الحياة في المجتمعاتالغربية، لا تقتصر على مجال دون آخر، ولا تحصر بحثها في هذا الاتجاه أوذاك، بقدر ما تلامس الهامش والمجهول… ص76»
(43) أحمد عبد الملك، المعري يعود بصيرا، المجلس الوطني للثقافة والفنونوالتراث، إدارة الثقافة والفنون، قسم الدراسات والبحوث، ط1، قطر، 2005م
(*) كتبنا مقالة بعنوان: المسرح والأوبِرا … وحديث مُلتَبس عن أوّلأوبِرا عربية، أشرنا فيها إلى الالتباس الحاصل بين الأوبِرا والمسرح. انظرجريدة عمان. ملحق شرفات الثقافي. الثلاثاء 6 ديسمبر 2011، رقم العدد338،وكذلك انظر موقعنا الشخصي www.amnahalrabee.com
(*) كتبنا عن هذه الجديَّة التي نتصورها العديد من المقالات الدالة، انظركتابنا: ما يوقظ القلب في السرد والثقافة والنقد. دار العالم العربي للنشروالتوزيع، ط1، دبي، 2008م
(44) بشأن ريادة يعقوب صنوع في مصر ظهرت دراسة تذهب بخلاف ذلك الرأي، إذيقول مؤلفها: «لم يظفر باحث واحد- حتى الآن- على دليل يؤكد هذه الريادة؛لأنها ريادة صِيغت بيد صاحبها يعقوب صنوع، ولم يقره فيها أي كاتب أو مشاهدأو معاصر له طوال فترة نشاطه المسرحي في مصر- كما زعم في كتابته…» [ص7] وفي فقرة أخرى يتسائل الباحث «من هو رائد المسرح العربي في مصر الذي أقامعروضا مسرحية عربية بصورة منتظمة… هذا الرائد من اليسير إيجاده والإشارةإليه وإلى ريادته… هذا الرائد هو سليم خليل النقاش اللبناني…» [ص8] ويورد للتدليل على ذلك العديد من الأمثلة. للتوسع حول هذا الموضوع انظر: د. سيد علي إسماعيل، رسالة القباني المسرحية بين النظرية والتطبيق، دار الصفاللطباعة، ط1، المنيا، مصر، 2009م
(*) من الأوهام الدارجة البحث المستميت عن هوية خالصة للمسرح العربي وتكرارطرح السؤال هل يوجد لدينا مسرح عربي خالص؟ إن محاولات البحث عملا ليسبعيدا عن التعسف، وضربا من المغامرة غير المأمونة! وهذا سؤال ناقشهالمسرحيون ولا يكفون عن مناقشته، لاسيما حين يتعلق الطرح بالهوية العربيةوبالأزمات السياسية والاجتماعية للإنسان العربي. والباحث بول شاوول خصصحديثا مسهبا لمناقشة هذا السؤال ضمن ورقته المعنونة بالاتجاهات الأساسية فيالمسرح العربي الحديث، ويسأل سؤالا نتفق فيه معه: هل من الضروري أن يكونللمسرح عموما هوية محددة تربطه بتاريخ معين وببيئة معينة، وبتقاليد معينة،وبقسمات معينة؟ للتوسع لقراءة كل ما يتعلق بجزئية الهوية والخصوصيةالمسرحية العربية انظر كتابه: المسرح العربي الحديث (1976-1989)، ص19-45،رياض الريس للكتب والنشر، ط1، لندن، 1989م
(45) نقلا عن: د. عواد علي، بيانات المسرح العربي.. التأصيل والتأسيس،ص34-39، مجلة المسرح العربي، العدد الثالث، يناير، الهيئة العربية للمسرح،الشارقة، 2011م
(46) د. سامي عبد اللطيف الجمعان، موت المؤلف نص وبيانات مسرحية، ط1، المملكة العربية السعودية، 2009م
(47) د. محمّد حسن عبدالله، المسرح في الخليج بين الواقع والمستقبل، ص 71،المؤسسة العربيةللدراسات والنشر، ط1، ج3، سلسلة أبحاث وتجارب تصدرهااللجنة الدائمة للفرق المسرحية الأهلية في دول مجلس التعاون، بيروت، 2002م
(48) د. محمّد حسن عبدالله، نفسه، ص73
(49) د. محمّد حسن عبدالله، نفسه، ص79
(50) مثال ذلك الإعداد: بيت الدمية لهنريك إبسن أصبحت المرأة لعبة البيتبقلم صقر الرشود، الثمن لآرثر ميلر، الغرباء لا يشربون القهوة لمحمود ديابأصبحت على يد ناجي الحاي الجيران الذين شربوا القهوة، أما موت موظف القصةالقصيرة المعروفة لأنطوان تشيخوف التي أعدها يوسف الخليل أصبحت عطسا وفطساللتوسع انظر ص103.
(51) حمد عبدالله الرميحي من مواليد 1953م. مؤلف ومخرج مسرحي وكاتبتلفزيوني. حاصل على دبلوم دار المعلمين 1971-1972م. بكالوريوس أدب ونقدمسرحي 79-80 م من المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت. من أهم أعمالهالمسرحية: «بودرياه» تأليف وإخراج،1980م، «المجانين» تأليف،1981م، «المناقشة» تأليف وإخراج،1982م، «أحمد بن ماجد» إخراج،1990م، «رأيت الذيسوف يحدث» إخراج،1991م، «عرب سات» تأليف بالاشتراك مع الفنان هشاميانس1992م، «موال الفرح والحزن» تأليف،1994م، «حلم رجل أسود» تأليفوإخراج،1995م، «مظلوم ظلم مظلوم» تأليف وإخراج،1995م، عمل سينوغرافيامسرحية «الكمامة»،1995م، «المحارة ملكة الأزمنة القديمة» تأليفوإخراج،1996م، «الفيلة» تأليف،1998م، «قصة حب طبل وطارة» تأليف،1999م، «سلام يا وطن» تأليف وإخراج،2001م، «بترول يا حكومة» تأليف وإخراج، 2002م، «القرن الأسود» تأليف وإخراج،2003م، «ورقة حب منسية- أبو حيان التوحيدي» تأليف وإخراج، 2004م، «سويرة وبنتها» معالجة درامية حمد الرميحي وهشاميانس، إخراج حمد الرميحي، 2005م.
(52) ستانيسلاف ستراتييف هو الاسم المستعار الذي عرف به الكاتب البلغاريالمعاصر ستانكو ستراتييف ميلادينوف المولود في مدينة صوفيا عام 1941م. بدأعمله في مسرح الدولة الساخر منذ عام 1976. بدأ ينشر أعماله منذ عام 1958 فيالصحف المدرسية. له (طواحين الهواء الوحيدة-رواية)، (بطة برية بينالأشجار-رواية)، (تفاصيل من المشهد- قصصا طويلة)، مسرحيتان هما: الحمامالروماني، وسترة من المخملين. نقلا عن: المسرحية، ترجمة محمد سعيدالجوخدار، مراجعة وتقديم ميخائيل عيد، سلسلة المسرح العالمي، العدد 280سبتمبر، الكويت 1994م
(53) عبدالله السعداوي أحد أهم المخرجين المسرحيين اللامعين في المسرحالخليجي. حصل على جائزة الإخراج في مهرجان القاهرة التجريبي عن مسرحيةالكمامة. عضو مؤسس في مسرح الصواري.
(54) د. محمّد حسن عبدالله، سبق ذكره، ص76
(55) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، سبق ذكره، ص44
(56) د. عبد الحق بلعابد، عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص. ص44،تقديم: د. سعيد يقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، الجزائر، 2008م.
(57) فرحان بلبل، النص المسرحي الكلمة الفعل. ص19، منشورات اتحاد الكتاب العرب، د.ط، دمشق، 2003م.
(58) سجلات رسمية، ص53، المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، إدارة الثقافة والفنون، قسم الدراسات والبحوث، ط1، 2005
المصدر: نزوى 2012-04-17 عدد 70
آمنة الربيــــع – كاتبة مسرحية من عُمان