
مجدي ممدوح*
عراب )التفكيك) جاك دريدا وجد نفسه مضطراً لمغادرة وطنه الأم فرنسا ، بعد أن لاقت فلسفته الجديدة التجاهل في أغلب الأوساط الثقافية الفرنسية، بل أنها جوبهت بالرفض والاستنكار من قبل التيارات الثقافية المحافظة، وهذا بالطبع أمر يثير الاستغراب في بلد الحريات والانفتاح، ولو حدث هذا في بلد أخر غير فرنسا لما أثار استغرابنا، والسؤال المحيّر هو،: كيف انتهى الأمر بالثقافة الفرنسية لكي تصل إلى نقطة ما أتاحت، وهيأت لظهور التفكيك، وكيف انتهى الأمر بها إلى أن تلفظ التفكيك وتتنكر له، أعني أن تطور صيرورة الخطاب بعد الخمسينات كانت تقود بشكل محتم نحو ظهور مذهب فلسفي كالتفكيك، بمعنى أن التفكيك هو الوليد الشرعي للثقافة الفرنسية، فلماذا تتنكّر له إذن؟.
تعتبر محاضرة جاك دريدا في جامعة جون هوبكنز حداً فاصلاً بين عصرين ثقافيين، تمثل ذلك بانحسار عصر البنيوية التي هيمنت على الثقافة القارية (أوروبا عدا بريطانيا)، وبداية بزوغ فجر التفكيكية التي ستلقى حماساً ملفتاً من قبل الأميركيين، حيث نلاحظ ظهور مدرسة أميركية في التفكيك ضمت أقطاب التفكيك المعاصرين (دي مان، بلوم، هارتمان، جوليا كريستيفا) والتي تعتبر أهم نجاح للتفكيكية.
إن ظهور التفكيك على أنقاض البنيوية ربما يقدم لنا تصوراً ما للأسباب التي أدت بالثقافة الفرنسية إلى لفظ التفكيك، فالثقافة الفرنسية حتى منتصف الستينيات كانت دانت للبنيوية، حيث دخلت البنيوية في الفلسفة وعلم النفس والنقد الأدبي، ولم يخل أي نتاج فكري في تلك المرحلة من التحليل والمقاربات البنيوية، وقد أصبح جل المثقفين الفرنسيين بنيويين، إذ كانت البنيوية تجتاح كالحمى الثقافة الفرنسية، لكن البنيوية ولاعتبارات فلسفية (ستتضح بعد قليل) لا يمكن اعتبارها سوى مرحلة انتقالية أو تمهيدية في صيرورة الخطاب الغربي، ولقد جاء دريدا وأوضح بجلاء أن البنيوية قد استنفذت أغراضها، وأن على العقل الغربي أن ينتقل إلى محطته التالية (وربما النهائية) وهي التفكيكية، ولكن يبدو أن القوى المختلفة التي تقف خلف الخطاب السائد بما فيها بالطبع القوى الاجتماعية والسياسية المحافظة، لم تكن مستعدة لهذا التحوّل أو أنه يمكن القول بشيء من الصراحة أن هذا التّوجه الجديد في الخطاب ألتفكيكي لا يتلاءم ومصالحها وتوجهاتها، وعلينا أن نتنبه دائماً أن كل خطاب معرفي يخفي وراءه إرادات قوى مهما بدا هذا الخطاب معرفياً خالصاً.
إن الخطاب التفكيكي لا يتلاءم مع المناخ الفكري السائد في فرنسا باعتبار أن فرنسا معقل التنوير الأوروبي وموطن الحداثة الغربية، فرنسا هي موطن فولتير وروسو والثورة الفرنسية، كما أن اللحظة الديكارتية (التي آذنت بانطلاق الحداثة) تحققت في الثقافة الفرنسية، والسبب في تعارض التفكيك مع المناخ الفكري الفرنسي هو أن التفكيكية هي تفكيك المنظومة المعرفية للحداثة الغربية أو تفكيك العقل الغربي، ومن الطبيعي أن يلقى هذا التفكيك ممانعة من قبل معقل العقل الغربي.
يتلخّص المشروع التفكيكي بالعمل المتواصل على إقصاء الذات المفكرة (الذات الديكارتية) التي ظلت طوال الثلاث مائة سنة الأخيرة تنتظم مكونات العقل الغربي، وتجمع شتاتها، وتعطي للعقل الغربي هذه الواحدية (المزعومة) التي تميز بها عن العقول الأخرى. وإذا أردنا تشبيه المشروع الحداثي الغربي بالعقد، فإن الخيط الذي ظل يجمع حبات هذا العقد لثلاثة قرون هو الذات المفكرة, ولقد جاء دريدا ليقول بكل وضوح إن الذات المفكرة هي وهْم ،ويوتوبيا، وأن لا شيء ينتظم هذه المكونات، وأنه آن الأوان للقضاء على المركزية التي ادعاها العقل الغربي لقرون وإتاحة المجال أمام التعددية والتشظي واللامركزية.
البنيوية هي الأخرى حاربت الذات المفكرة، ونستطيع أن نرصد هذا في أعمال البنيويين المبكرين في فرنسا أمثال شتراوس رولان بارت وفوكو، وحتى دريدا نفسه من المؤكد أنه بدا بنيوياً, ولكن البنيويين وقعوا في مفارقة واضحة، فلقد ظلوا يتكلمون عن البنيات التي تشكل الخطاب المعرفي الغربي، دون أن ينتبهوا أن هذه البنيات لم يعد هناك ما يربطها في ظل غياب الذات، ولم يجرؤ أي بنيوي فرنسي على التفكير في ما وراء ذلك، لأن ذلك بالضبط هو ما كانوا يخشونه وهو تدمير بوصلة العقل الغربي، وتغييب مرجعياته، وبالتالي إحالة المشروع الحداثي المستند إليه إلى ركام.
وحده دريدا استطاع أن يفعل ذلك، ووجّه أهم نقد معرفي للمشروع البنيوي ناعتاً إياه إنّه (كانطية بدون ذات) ماشياً بذلك على سُنة ريكور، والحقيقة أن كافة البنيويين كانوا متفقين على نقد الكانطية بسبب الدور المركزي الذي يضطلع به العقل في تشكيل معارفنا، لكن البنيويين وجدوا أنفسهم في النهاية يتعاملون مع البنى المكونة للخطاب المعرفي، وكأنها تتشكل وتتعالق في وحدة عضوية ابتداءً بالبنى الصغرى وانتهاء بالكبرى. لقد كانت البنيوية مذهباً مهماً استطاع أن يكشف البنى الجزئية التي يتكون منها كل خطاب، وكانوا محقين تماماً في إقصائهم للذات، ولكن البنيوية أصبحت في مأزق حقيقي، ما الذي ينتظم البنى المكونة للخطاب في ظل غياب الذات!؟ لماذا بقيت حبات العقد متناسقة بعد سحب الخيط (الذات)؟ هذا بالضبط ما عنيته في البداية عند الإشارة الى إن البنيوية كانت محطة مؤقتة للانتقال إلى التفكيك.
إن التحليل السابق ربما ألقى بعض الضوء على الأسباب التي حدت بعراب التفكيك للارتحال من فرنسا، وربما جاءت أحداث ربيع 68 كي تقدم إجابات وتأكيدات على كل القضايا السابقة، فلقد أقدمت القوى الليبرالية المحافظة على سحق الثورة الطلابية، فهذه القوى التي تقف وراء الخطاب التنويري وتقف وراء مركزية العقل الغربي، استشعرت الخطر الكبير بسبب التوجهات الجديدة التي ظهرت في الخطاب التفكيكي، والداعي إلى لامركزيتها.
علينا أن نعي جيداً أن اليسار الأوروبي قد وجد أخيراً ضالتهُ في التفكيكية كخطاب جديد يتمظهر من خلاله، ومن الملاحظ أن اليسار الشيوعي قد فرّ فراراً شائناً من هذه المواجهة، وكان موقفه يدعو للاستهجان، إذ أنه كان يتحين الفرصة للمواجهة مع القوى الرأسمالية، ولكنه في النهاية بقي متفرجاً تاركاً هذه القوى الرأسمالية تستفرد بالحركة الطلابية المتمردة وتسحقها. وهذا ربما يؤشر أن الخطاب الشيوعي في أوروبا أو ما عرف (بالأوروشيوعية) لم يكن خطاباً أصيلاً ومتجذراً في الثقافة القارية، بل إنه كان مرتبط بشكل أو بأخر بالقوى الشيوعية في المركز الروسي.
التفكيكية إذن بوصفها خطاباً معرفياً جديداً واكبت ظهور قوى اليسار الأوروبي الأصيل والذي أصبح يعرف بتيار ما بعد الحداثة، وربما يكون خطابه أقرب لليسار الأوروبي من الخطاب الشيوعي. وهذا الخطاب ما بعد الحداثي هو خطاب يحارب القوى الليبرالية المحافظة ويهاجمها في لبّها, في العقل الغربي، هذا العقل الذي ظل لقرون إلهاً للحداثة الأوروبية.
لكن لماذا وجد التفكيك أرضاً خصبة في أميركا، ولماذا تتبنى أميركا هذه الفلسفة؟ أو ليست أميركا معقلاً للامبريالية أعلى مظاهر الرأسمالية؟، إن هذا الأمر يثير بعض الاستغراب، والحقيقة أن دريدا قوبل في الأوساط الثقافية الأميركية بشيء من الحذر الممزوج بالخوف بسبب ما عرف عن دريدا وزملائه البنيويين من محاربتهم للذات، ودعوتهم إلى إقصاءها بوصفها يوتوبيا زائدة، فالثقافة الأميركية تمجّد الذات الفردية بسبب النزوع الجامع في الثقافة الأميركية نحو الحرية الفردية، ولكن سرعان ما أتضح للمثقفين الأميركان أن دريدا لا يحارب الذات الفردية بل يحارب الذات المفكرة الغربية التي تقف وراء الخطاب المعرفي الغربي، وهو يدعو إلى تحييدها من أجل المزيد من التحرر واللامركزية والتعددية، وقد وجد هذا هوى لدى الأميريان ومس شغاف قلوبهم، بالإضافة إلى الولع الكبير من جانب الأميركان بالتقليعات الجديدة، وقد كانت التفكيكية هي أخر تقليعة في الفكر، ومن الملاحظ أنّ المدرسة الأميركية في التفكيك لم تول اهتماما كبيراً للتداعيات الفلسفية لهذا المذهب الجديد، فالتفكيك الأميركي لم يعرف في التفكيكية سوى الآليات الخاصة في تحليل ونقد النصوص، مع أن دريدا ظل يصرح أن مذهبه الجديد ليس بالضرورة مذهباً في النقد الأدبي، وأنه ليس متأكداً من صلاحيته وفعاليته في نقد النصوص الإبداعية، وربما تكون فعالية التفكيك في العمل على الخطابات المعرفية، والكشف عن إرادات القوى التي تختبئ وراء هذه الخطابات هي التي حدت بالثقافة القارية إلى التوجس منه، وأرى أن هذا الجانب من التفكيك لم يوله الأميركان اهتماما، وانصرفوا بالكامل إلى استخدام الأدوات والآليات الجديدة الفعالة في تحليل وتفكيك النصوص متحررين بالكامل من كل القواعد والمحددات التي كان يفرضها (النقد الجديد) الأنكلوسكسوني، والذي هيمن على الساحة الثقافية الأنكلوسكونية لأكثر من أربعة عقود. ولقد أولع الأميركان على وجه خاص بالمصطلحات الجديدة التي أبدعها دريدا مثل (اللعب الحر) )لا نهائية الدلالة) )كل قراءة هي إساءة قراءة) وانطلق التفكيك الأميركي مثل ثور هائج في محل التحفيات لا يبالي ولا يعترف بأي غال ونفيس محطماً كل السائد والأطر والقواعد التي إعتاد عليها النقاد. وبالطبع فإن كل هذا يلائم وينسجم مع الهوى الأميركي.
وهكذا لم تدرك الثقافة الأميركية بوضوح أن التفكيك هو تقويض للمنظومة الحداثية، وتقويض للقوى الرأسمالية التي تقف خلفها ومشاكسه للمركزية الغربية، وسوف نلاحظ وبكثير من الاستغراب أن الفلاسفة التفكيكين في أميركا سوف يستخدمون كل الأسلحة التي أبدعها دريدا، للهجوم على السرديات الكبرى مثل الماركسية ،وحولوا سلاح التفكيك الموجه بالأصل لمنظومتهم إلى سلاح ضد منافسيهم وهذا ما نلحظه بوضوح لدى الفيلسوف رورتي الذي أمعن في تفكيك، وتقويض كل السرديات الكبرى بما فيه الأديان والأيدلوجيات.
إن الأبعاد النهائية لفلسفة التفكيك لم تتضح بعد، كما أن الفكر الفلسفي لم يستخرج بعد كل الإمكانات التي تحتملها فلسفة التفكيك، وأرى أن هذه الفلسفة بحاجة إلى قوى اجتماعية فاعلة تعمل على تبنيها كمنهج فكري جديد، منهج يروم الكشف عن الحيل والألاعيب التي تمارسها القوى المهيمنة متقنعة بالخطاب المعرفي، وإدعاء النزاهة والحيادية الخالصة. إن تفكيك الخطابات المعرفية الزائفة وكشف القوى المتسترة خلفها هو جهد معرفي ينطوي على أبعاد واسعة وممتدة إلى كافة مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والأكاديمية، ولقد نوهنا منذ البدء أن هذه المهمة لا يمكن أن يتبناها سوى اليسار الأوروبي (غير الماركسي)، ويمكننا القول بشيء من الحذر أن هذا هو بالتحديد ما تبلور في الثلاثة عقود الأخيرة، لقد أصبح التفكيك هو العقيدة التي يتبناها اليسار الأوروبي، وإن مستقبل ومصير التفكيك كفلسفة جديدة سيعتمد بالكامل على قوة القوى التي تقف خلفه أكثر من اعتماده على تماسكها المعرفي.
* باحث من الأردن.
قاب قوسين 03/14/2013