
توفيق الحكيم
حلم راود كبار الكتّاب
توفيق الحكيم.. هل كان رائداً لقصيدة النثر؟
توقيق الحكيم
جهاد فاضل
يبدو أن حلم الحصول على لقب شاعر لا يفارق حتى كبار الكتّاب، فها هو المسرحي والروائي المصري الكبير توفيق الحكيم، وعلى الرغم مما ناله من التكريم والاهتمام في حياته الأدبية الطويلة، فإنه حرص في السنوات الأخيرة من حياته على كشف أوراق أدبية قديمة له تفيد، بنظره، أنه لم يكتب الشعر وحسب، وإنما كان رائداً من رواد الشعر العربي الحديث.
تعود هذه الأوراق إلى عامي 1926 و1927، أي إلى مرحلة لم يكن قد ظهر فيها عند العرب ما يُسمى «بالشعر الحديث»، فما كان يكُتب في تلك المرحلة لم يكن يرقى إلى هذه الصفة، رغم بعض ملامح التجديد التي كانت تظهر عليه. بالطبع لم يكتب الحكيم الموزون المقفى الذي كانت تنصرف إليه وحده صفة الشعر يومها، بل كتب ما سُمّي فيما بعد بقصيدة النثر، أي تلك الخواطر النثرية الحرّة التي لا تتقيّد بوزن أو قافية والتي قد تتضمن شاعرية أحياناً، وقد تخلو من الشاعرية أحياناً أخرى.
رائد شعري
ولكن الحكيم ذكر قبل رحيله أن ما كتبه من شعر منثور كان وثيق الصلة بتراث العرب، وتحديداً بالقرآن الكريم، فهو إذن رائد شعري كما هو ابن بارّ لتراثه العربي الإسلامي!
كيف قدّم الحكيم نفسه كشاعر؟ قال «في السنوات العشرين من القرن العشرين، وأنا في باريس، أغراني هذا الفن الجديد (يقصد الشعر الحديث) بالشروع في المحاولة، فكتبت بضع قصائد شعرية نثرية من هذا النوع الذي لا يتقيّد بنظم أو بقالب معروف. وقد أهملتها فيما بعد لأن اتجاهي الأصلي كان إلى المسرح».
رحلة الربيع والخريف
ولكن ما حجبه الحكيم عن الجمهور، احتفظ ببعضه ليورده في كتابه «رحلة الربيع والخريف»، وكذلك لينقله إلى اللغة الفرنسية فيما بعد، ضمن ديوان كامل بهذه اللغة، مطلقاً عليه تسمية «قصائد عربية»، مما يفيد أنه كان مقتنعاً بريادته للشعر العربي الحديث!
من هذا الشعر الذي كتبه توفيق الحكيم سنة 1926 متأثراً، كما يقول، بسورة العاديات من القرآن الكريم، هذه المنثورة:
تنفس صبح من أنوف خيول
تعدو لاهثة في وهاد نفسي
أسمع في أعماقي الصهيل
امنعوها من اللحاق بأمسي
إنها في غيوم تحرق
تتساقط من سنابكها شهب تبرق
وتغرق في عيون سود!
أما لماذا اتجه الحكيم إلى القرآن الكريم، فقد تولّى بنفسه شرح
ذلك: «ان القرآن يتميز من حيث الشكل بانه «شكل حر»، أي انه لا يتقيد بنظم أو قافية، وهذه الحرية التامة نبع منها هذا التعبير العظيم ولم يكن قصدي كما فهم خطأ، المحاكاة من حيث الموضوع والمضمون، لان الموضوع والمضمون هما من عند الله تعالى ولا يصح التفكير في محاكاته أو مجاراته بأي وجه من الوجوه، وانما فقط يجوز الانتساب اليه من حيث الحرية والشكل الحر، وهذا يكفي للتأصيل ولا حاجة الى الالتجاء الى ادلة ضمنية مثل التفعيلة ونحو ذلك.
بعد ذلك يحمل الحكيم على التفعيلة فيراها مجافية لحرية الشعر والشاعر: «ان الشعر الحر اذا قيد نفسه بالتفعيلة فانه لا يعود حرا، ويفقد صفة الحرية، ويكون قد تحرر من قيد ليقع تحت سلطان قيد آخر هو التفعيلة».
الشكل الحر
الحكيم يريد الحرية الكاملة للشعر: «ان ذكراتي الضعيفة اليوم تخيل لي اني لمحت يوماً في كتاب أخير للمرحوم صلاح عبدالصبور بعض آيات قرآنية لم تسمح لي ظروفي وقتئذ بتحري ذلك وأسبابه، فهل تراه قد فطن الى أهمية هذا الشكل الحر في القرآن؟ لستُ أدري، وأرجو مراجعة ذلك في كتبه، وأنا اليوم بحكم سني وصحتي لا يمكن ان أبذل مجهوداً يذكر في أي شيء، ولولا رغبتي في ان يكون للقرآن الكريم فضل في توجيه الشعر الحر الجديدة لما تحركت»!
وهو يقول في كتاب قديم له عن أدب الحياة انه ليس ممن يتمسكون بعمود الشعر القديم وأوزانه وقوافيه بغير جدال ومناقشة، فهو مستعد دائما للاصغاء الى كل رأي جديد.
الناظم والشاعر
وليس كل شعر يدبج على الطريقة القديمة يعجبه. فمن شعراء العصور الحديثة من يحاول تقليد القديم بفخامة الديباجة وغرابة اللفظ ورصانة العبارة ورنين الوزن والتزام القافية، فإذا به يجد الصخرة الصلبة حقاً، ولكنه لا يجد الماء الزلال، إذا به يجد الناظم ولا يجد الشاعر.
وفي بعض ما كتب ينفي الحكيم انه شاعر بأي وجه من الوجوه. ولكنه يعود، قبل ان يتوفى، إلى قصائده الباريسية التي كتبها بالعربية خلال عامي 1926 و1927 وينقلها إلى الفرنسية تحت عنوان: «قصائد عربية»، ولهذا دلالته، لقد حرص على تأكيد ريادته كما على تعدد قابلياته الادبية والفنية، كما كان مقتنعا، على الارجح، بان قصائده الباريسية العربية هذه كانت فاتحة الشعر العربي الحديث.
عدد نصوص ديوان الحكيم بالفرنسية هو 31 نصا، وكانت عربية قبل ترجمتها، ولكنها كانت في الأساس 21 نصا، وهذا يعني ان الجديد الذي اضافه هو عشرة نصوص. فهل النصوص المضافة كانت في حوزته، أي في جملة نصوص الباريسية القديمة، أم انها نصوص جديدة كتبها حين اراد ان يطبع ديوانه الفرنسي هذا؟
ما من جواب متاح على ذلك، ولكن أي قراءة لاشعار الحكيم هذه تفيد التزامه القيم الانسانية النبيلة كالحب والعدالة والسلام والحرية.
ثمة استنتاجات كثيرة يمكن ان يخرج بها المرء من حرص الحكيم على الاشارة الى هذا الجانب الذي لم يكن معروفاً عنه، فعلى مدى سنوات طويلة، هي عمر الحكيم الادبي، لم يشر الحكيم، ولا اشار سواه الى انه كتب الشعر في شبابه وحاول ان يكون شاعراً، ولكن يبدو انه شعر وهو في سنواته او ايامه الاخيرة ان من شأن كشف هذه الصفحة من ملفه الادبي ما يعزز مكانته كشخصية ثقافية وما يؤكد ريادته ايضا. علينا ان نتذكر ان اكثر رفاق جيله كانوا شعراء او حاولوا الشعر، طه حسين حاول ان يكون شاعراً في بداية حياته، فلم يوفق الا لشعر تقليدي هو اقرب الى النظم منه الى الشعر، اما العقاد، الذي اصدر بضعة عشر ديوانا، كان حريصا كل الحرص على لقب الشاعر ويفضله على اي لقب آخر يمكن ان يوجه اليه، فقد استقر في النهاية في خانة «الشعارير» لا في خانة «الشعراء»، نظراً لضعف شعره وعدم اقتناع الناس بتوفير الشاعرية فيه.
بالطبع كان العقاد كاتبا كبيراً ولكنه لم يحقق في الشعر شيئاً ذا بال، اما المازني وشكري، وهما رفيقان للعقاد في «الديوان»، فلا بأس بشعرهما وان كان جهدهما الاساسي انصب لاحقاً على النقد لا على سواه.
على طريقة الفرنسيين
لكن يبدو ان الحكيم لم يكن يمتلك ادوات الشعر العربي المعروفة، فلو انه كان يعرف كتابة الشعر على اوزان الخليل، لما تردد في ذلك، وقد كان من الطبيعي لاي سليقة مسرحية وروائية وقصصية مثله، ان يكتب شعره بحسب طرائق الكثير من الفرنسيين، الذين كان يعيش في ظهرانيهم، اي بأسلوب الشعر المنثور، ويبدو ان الحكيم عندما عاد لاحقاً الى مصر لم يذع شعر المنثور هذا لانه وجد على الارجح ان لا سوق له في مصر والبلاد العربية فحجبه. الى ان تغيرت الظروف وباتت «المنثورة» معروفة ومألوفة عندنا. عندها عاد الحكيم الى دفاتره القديمة ليستل منها هذه الخلجات التي شعر بها خلال غربته الفرنسية، فنشرها واوحى من خلال هذا النشر انه كان بداية عصر الشعر الحديث في مصر والبلاد العربية، ولم يكن مضطراً الى ذلك، فأشعاره القديمة هذه لا تضيف شيئاً في الواقع الى ملفه الادبي، وما لديه في هذا الملف مما هو معروف وشائع، يضعه في عداد كبار ادباء وكتّاب زمانه.
القبس 10/05/2012