
لندن: محمد رُضــا
تجهـم وجه المخرج جعفر بناهي ظهر يوم أحد الأيام خلال حفلة غذاء أقيمت على شرف لجنة تحكيم الدورة الثالثة لمهرجان دبي السينمائي الدولي. المخرج الإيراني كان رئيس لجنة تحكيم مسابقة المهر للأفلام التسجيلية، وعندما وصله نبأ غير دقيق مفاده أن السـلطات الإماراتية منعت فيلما من الاشتراك في المسابقة، تقدم صوب مدير المهرجان وقال له: «أصر على إصدار بيان شجب». حاول مدير المهرجان، مسعود أمر الله، بهدوئه المشهود، معرفة ما الذي حدث، فقال المخرج المعروف إنه تناهى إليه منع أحد الأفلام من العرض، وهو لا يستطيع أن يقبل بذلك، وأنهى كلمته بعبارة: «أنا من إيران وأعرف معنى المنع ولا أرضى عنه».
تطلب الأمر التأكيد للمخرج الإيراني أن منعا لم يحدث، لأن المخرج هو الذي سحب فيلمه. واستمع بناهي لوجهة النظر الصحيحة: «إذا ما كان المخرج لا يود إشراك فيلمه في المهرجان فهذا شأنه، ولا تستطيع إصدار بيان بشأن ذلك».
نتيجة ذلك، أن تراجع بناهي، لكن من بعد أن أكد لنفسه ولآخرين أنه بالفعل من طينة المعارضة التي تجابه، ولا ترضى أن تتنازل إلا إذا ثبت لها أن القضيـة التي تثيره ليست مطروحة في الأصل. لكن المخرج المعروف الذي حكمت عليه المحكمة في الأول من مارس (آذار) 2010 بالمنع من العمل لعشرين سنة وبحجزه في منزله، كان تعود محاولات التدخل في عمله والمصادرة والمنع. كل فيلم أخرجه كان إعلان موقف ضد نظام يؤمن بأن على السينما وباقي الثقافات والفنون أن تمتثل لما تراه الدولة صحيحا ومعبـرا عنها. أفلام بناهي، تحديدا منذ عمله الطويل الثالث «البالون الأبيض»، انتقادية، غالبا تتمحور حول الأنثى. إنها طفلة في «البالون الأحمر» (1995) وفي «المرآة» (1997)، والمرأة عموما في«الدائرة» (2000) و«تسلل» (2006)، ورجالية فقط في شخص فيلم واحد هو «ذهب قرمزي» (2003). وهي كلها درامات جادة، يطرح فيها مستويات من الأوضاع الاجتماعية التي تتعامل وحريـة المرأة، وتتقصـد طرح وضعها تحت سلـطة رجل ومن ثم دولة مع تمرير أوضاع كالبطالة والإحباطات، وإهانات طبقة ضد أخرى، والسعي الحثيث لمواجهة عراقيل مـدنية تصطدم بها شخصياته.
* أسلوب صعب
* المتابعون للسينما الإيرانية يحبون ضم بناهي إلى كل من المخرجين عباس كياروستمي ومحسن مخملباف، على أساس أنه ثالث الثلاثة الممنوعين والمغضوب عليهم، وأنه – من ناحية أخرى – مثلهم في مستوى العمل السينمائي كفنـان كبير بخصائص أسلوبية منفردة شأن كل من زميليه. لكن الحقيقة، أو هذه الجوانب منها على الأقل، تختلف كثيرا عن هذا السائد.
في حين أن عباس كياروستمي ومحسن مخملباف لم يقدما يوما على تحقيق أفلام تؤلـب السـلطة الإيرانية، بل تحاشيا ذلك عمدا – فإن جعفر بناهي جعل أفلامه أكثر حضورا في دائرة النقد الذي لم يفت النظام ورقابته. إنه بذلك يقود فريقا آخر عـرف عن أعماله خرقها للمحظورات، أمثال مجيد مجيدي وبهمان قبادي. وفي حين تسلل مخملباف وعائلته إلى رحاب باريس، ولحق به كياروستمي حيث بدأ تحقيق أفلام أوروبية لا علاقة لها بإيران لا من قريب ولا من بعيد – آثر بناهي البقاء في إيران حتى عندما لاحت العقوبة التي تعرض لها، في الأفق.
فنيـا، هو من النوع الذي يغزل أفلامه بأسلوب صعب. عوض أن يكسر التقاليد الفنيـة ويفتح الكاميرا ولا يغلقها، ويترك للمشاهدين الحديث بلا نهاية، ويمحور مواضيعه حول دخول وخروج شخصيات بلا حبكة، كما يفعل كياروستمي – يقوم بناهي بتأسيس حكاياته. يخلق الموقف، ويستخلص من أسلوب الحكي الطبيعي المشاهد التي لا تنسى أنها تنتمي إلى فعل السينما وليس المسرح (أو حتى الإذاعة). وأفلامه ليست واحدة ولا هي متشابهة، لكن الأهم هو أنه لم يهرب من المواجهة، لا حين كان يحقق الأفلام ولا حين منعته الحكومة من العمل.
سوابق ليس هو الوحيد الذي تعرض للاضطهاد. عشرات من المخرجين من كل مكان واجهوا أوضاعا مماثلة. في الحقيقة، التاريخ مليء بالمناخات التي أتاحت للسلطات التعرض لها. والد المخرج الإيطالي سيرغيو ليوني، وكان ممثلا ومخرجا مسرحيا وسينمائيا، مـنع من العمل أيام الفاشية الإيطالية. السينمائي والفنان سيرغي بارادجانوف دخل السجن السوفياتي مرات ثلاث، كل مرة إثر فيلم أو قبل البدء به. المخرج والشاعر الكردي يلماز غونيه دخل السجن التركي مرتين على الأقل وفي الثانية بلا قرار بالإفراج عنه، حتى هرب طالبا اللجوء في أوروبا. والمنع طال المخرج الصيني تيان زوانغزوانغ مباشرة بعد فيلمه الرائع «طائرة ورق صفراء»، فإذا به يمضي بضع سنوات غير قادر على إنجاز فيلم آخر، بسبب مسـه الوضع الشيوعي لفترة ما بعد «الثورة الثقافية». والشبهات التي حامت حول عدد من المخرجين اليساريين في هوليوود الأربعينات، دفعت بشارلي شابلن، وجوزف لوزي، وجويل داسين إلى الهرب من أميركا خوفا من دخولهم السجن المكارثي.
لكن بين هؤلاء ومن سواهم، يلتقي بناهي مع بارادجانوف وغونيه في أن السجن لم يكن تهديدا، بل حكما قضائيا، مع اختلاف أن الحكم القضائي الإيراني، وربما تحاشيا لغضبة رأي عام عالمي، آثر وضع المخرج داخل منزله في إقامة جبرية. وإذ تم ذلك قبل عامين وسط تنديد دولي، لم يفت ذلك من عضد المخرج، فحقق فيلمين حتى الآن رغم ذلك المنع؛ الأول في العام الماضي بعنوان «هذا ليس فيلما»، والثاني هذا العام باسم «ستائر مسدلة».
«هذا ليس فيلما» تسجيلي تجريبي حول بناهي في منزله (في الطابق الثامن من بناية عالية بمنطقة ميسورة)، وهو يسرد على مخرج يصوره (مجتابا مرتهماسب) فكرة فيلم كان يريد تحقيقه، لكن الرقابة طلبت منه أولا تغيير مشاهد، وعندما اكتفى بتعديلها لم توافق على منحه رخصة إنجاز الفيلم، فلم يستطع تصويره ثم جاءت قضيـة سجنه تلك.
«رسائل مسدلة» (مع المخرج كامبوزيا بارتوفي) ليس تسجيليا صرفا، بل تجريبيا في الأساس. نصف الفيلم الأول عن رجل يعيش وحيدا مع كلبه ويخشى زيارة الناس لمنزله (الواقع على الشاطئ)، لكن هذا ما يحدث تحديدا قبل أن ينقلب الفيلم، فإذا بما سبق تقديمه هو ما في بال جعفر بناهي مخططا لفيلم في البال.
لماذا يستطيع بناهي تحقيق الأفلام وهو الممنوع عن ذلك؟
* خداع
* هناك ثغرة في القرار الصادر بحقـه من قـبل المحكمة. القرار القضائي يقضي بمنع بناهي من ثلاثة: كتابة السيناريوهات، والإخراج، والتوليف. لكنه لا يقول شيئا، لا عن التمثيل، ولا عن قراءة سيناريوهاته. وإذا ما لاحظنا، نجد أنه ملتزم ذلك، أولا من خلال جلب مخرجين يقومان بتحقيق الفيلم الذي يشمل الفيلم في داخله (بالتالي مسؤولية الفيلمين معا)، وثانيا يظهر بناهي بنفسه ليمثـل بناهي وهو يسرد شخصياته الأخرى. في «هذا ليس فيلما»، يقرأ سيناريو فيلمه الممنوع ويجسـد بعض مشاهده. لكنه في مشهد معيـن من الفيلم يتوقـف: «أنا أحكي القصـة ولا أخرج الفيلم. ما الفائدة؟».
هذه العبارة، في الواقع، هي خط فاصل بين سينما تحكي قصصا وسينما تعالج مواضيع وشخصيات. واحدة تنتمي إلى الجمهور العريض ويصنعها مخرجون ومنتجون يفضـلون الانتماء إلى هذا الخيار، وأخرى قوامها من السينمائيين المختلفين عن السائد. وفي كثير من الحالات، تختلط الجبهات، فإذا بفيلم يصور وضعا اجتماعيا عسيرا، مثل «البقرة» لدرويش مهرجي (1969) أو «طرق مجمـدة» لمسعود جعفري جوزاني (1985)، ينجز نجاحا تجاريا كبيرا.
السمات العامـة للسينما الإيرانية لا تختلف عن سمات عامـة للكثير من سينمات المحيط الجغرافي حولها. هي ذات تاريخ بعيد (من مطلع القرن العشرين)، وغزارة في الإنتاج (كالسينما الهندية)، مع جمهور واسع يحب السينما (كما الحال في مصر والهند وتركيا قبل النكبة التكنولوجية الحالية)، ومواضيع كثير منها يتعامل وحكايات خارج المدينة (كما أفلام مصرية وتركية كثيرة في الخمسينات والستينات).
إلى ذلك، تمتعت السينما الإيرانية بنتائج هذا الانتشار. فصناعة السينما تولد من بيئة يتوافر لها شرطان: سينما تجارية نشطة وجمهور واسع (وكلا الشرطين متداخلان بحيث يصعب الفصل بين نهاية أحدهما وبداية آخر).
السينما الإيرانية عانت رقابة نظام الشاه السابق في الخمسينات والسبعينات، لكن في حين تم الاعتقاد أن ما سمـي ـثورة الخميني، ستزيح تلك السطوة وستمنح السينمائيين الإيرانيين تلك الحرية التي يحلمون بها، تبدى بعد سنين قليلة أن الحكم الجديد يشترك مع ذلك السابق في اعتبار أن الرقابة هي من تتولـى إرشاد السينمائيين لما يجب أن يصنعوه، وأن الحريـة ليس لها نصيب في العمل السينمائي (أو في ما سواه)، وبالتالي فإن الإبداع طموح قد يعرض صاحبه إلى المنع من العمل أو السجن أو كليهما معا.
* العربية والإيرانية
* لحين، بدت السينما الإيرانية منجما من الذهب. حقيقة أن «الثورة الإسلامية» تمـت بتأييد غربي لازم التوقـعات من أن هذه الثورة ستتيح الحريـة لمواطنيها. وإلى أن تبيـن قبيل نهاية التسعينات، من أنها لن تكون سوى بديل للتعسـف السابق، كانت السينما الإيرانية تغلغلت في أروقة المهرجانات الدولية عبر أفلام لعباس كياروستمي ومحسن مخملباف وماجد مجيدي وجعفر بناهي. ومع أن السينما العربية كانت دوما حاضرة إنتاجا (بفضل نتاجات مصرية وتونسية وسورية وعراقية ومغربية وجزائرية ولبنانية على الأقل)، إلا أن تلك الإيرانية هي التي سرقت الاهتمام، واحتلت مكانة إعلامية أخفقت السينما العربية في الوصول إليها.
السبب يكمن في عدة جوانب؛ واحد منها هو ما سبق ذكره من توقـعات من وضع سياسي جديد. آخر كمن في أن السينما العربية لم تطرح نفسها كحالة إسلامية كما فعلت الإيرانية. السينما العربية هي سينما يحققها – غالبا – مسلمون، لكنها ليست بالضرورة مطلقا سينما إسلامية.
ثم هناك القضايا والتعبير عنها: في الوقت الذي كانت فيه الأفلام الإيرانية تطرح قضايا اجتماعية جديدة على العين وبأسلوب تعبير مثير للاهتمام، كان الكثير من الأفلام العربية يعاود طرح نفسه موضوعيا وبصريا. هذا لا يعني أن النجاح لم يكن حليف سينمائيين من تلك الدول العربية. من لبنان، شق مارون بغدادي طريقه بنجاح إلى قلب السينما الفرنسية. توصـل يوسف شاهين إلى مكانة مرموقة بين مخرجي المهرجانات، ولمعت، ولو لحين، أسماء مخرجين تونسيين وجزائريين ومغاربة، ومصريين آخرين من بينهم محمد خان، ورضا الباهي وسهيل بن بركة والناصر خمير من بين آخرين.
على كل ذلك، السينما العربية كانت تلهث للوصول في الوقت الذي كانت السينما الإيرانية تخطف جوائز أولى في مهرجانات كـ«برلين» و«فينيسيا» و«كان» و«لوكارنو» و«روتردام» وما سواها. العجز الفاضح، والسبب الجوهري بين كل ما سبق، هو أن السينما العربية سينمات متفرقة، والسينما الإيرانية واحدة، وفوق أنها واحدة وجد فيها النظام الجديد خير دعاية إعلامية، فوفـر لها المال والترويج، مستفيدا من الضجـة الإعلامية حتى عندما كان يدعي أنه معاد للكثير منها.
المسألة بدت، بلا ريب، كلعبة ممارسة بمهارة: يتم السماح لفيلم إيراني بالخروج من حدوده لعرض عالمي. ينطلق مصدر رسمي يندد بذلك السماح ويصور الفيلم على أنه كاذب ومفتر ومعاد للحقيقة. يفوز الفيلم. يعود مخرجه إلى إيران (إلا إذا ما كان مبعدا من البداية) ويباشر تحقيق فيلم آخر.
* لعبة المهرجانات
* المشكلة ليست في أن الغرب استجاب للعبة لم يفهم شروطها في البداية، بل في أنه سريعا ما اعتبر أن عرض الفيلم الإيراني من أولويات وضرورات اختياراته. لذلك، وفي حين أن الكثير مما عرض من مطلع العقد الحالي وإلى اليوم، كان بالفعل معاديا للنظام الإيراني، إلا أن بعضه لم يكن سوى استجابة لذلك الشعور بأن فيلما إيرانيا واحدا لا بد من انتخابه في المسابقة أو – على الأقل – في العروض الرسمية الأساسية.
يؤكد هذا التوجـه قيام مهرجان «فينيسيا» قبل ثلاث سنوات بعرض مشاهد صورتها هانا مخملباف (أصغر أولاد والدها محسن) بكاميرا الهاتف لما كانت طهران تمر به من أحداث تمرد وغليان شبابي. رغم أن نيـة التأييد إعلاميا لا غـبار عليها، فإن «الفيلم» المسجـل لم يحمل أي تبرير فني على الإطلاق، ولولا اسم هانا المرتبط بأبيها لما وجد طريقه إلى العرض الرسمي للمهرجان.
كذلك الحال بالنسبة لفيلم جعفر بناهي «هذا ليس فيلما»، لأن العمل في نهاية مطافه مطابق لعنوانه على أكثر من نحو، لكن مهرجان «كان» لم يكن ليدع هذه الفرصة تفوته، وحسنا فعل في اختيار هذا العمل كتعبير عن تقدير الوسط السينمائي لما يبذله المخرج الإيراني لكسر الطوق المفروض عليه.
بناهي ينتمي إلى جيل حديث من المخرجين إذن، شمل والديه الشرعيين محسن مخملباف وعباس كياروستمي، لكن إذا ما ابتعدنا عما يذهب إليه المصنفون الأجانب من تقدير زائد عن الحاجة لهذين المخرجين، فإن الوجه الحقيقي للسينما الإيرانية، المعادية للنظام، يتألـف من ملامح باقي المخرجين العاملين وليس إلى تلك الرادارات التي تقطف الشهرة على حساب الحقيقة. ولو نظرنا إلى الواقع من دون تلك العناوين الإعلامية ذات الهالات المحفوظة لوجدنا أن ما حققه أصغر فرهادي في العام الماضي عبر فيلمه «انفصال» هو أكثر مما استطاع الآخرون إنجازه. فبعد أن نال ذهبية مهرجان «برلين»، وحصد عددا من جوائز المهرجانات الأصغر حجما، وصل إلى ترشيحات «الأوسكار» وخرج بجائزة أفضل فيلم أجنبي. يعمل فرهادي على تصوير حالة هروب، يعمد إليه أبطاله راغبين في التخلـص من ضغوط المجتمع والنظام. ففي فيلمه الأسبق «عن إيلي» سعى لبناء معضلة تخص الوضع الاجتماعي الناتج عن جملة قوانين لا تأخذ بعين الاعتبار ظروفا فردية مستجدة: شلة من الأصدقاء يصلون إلى شاطئ البحر وفي نيتهم قضاء عطلة قصيرة. يفترشون بيتا مهجورا وتتناوب الكاميرا، بطبيعة الحال، مسح الشخصيات التي أمامها تعريفا ثم تمييزا. كل مع زوجته باستثناء امرأة شابـة اسمها إيلي (تارانه علي دوستي). هذه التحقت بالمجموعة من خلال صديقتها التي تعمل معها في المكتب نفسه. وإيلي تختفي. رغم الغموض، يبني الفيلم معالجة واقعية (في مقابل أن تكون تشويقية) لما يترتب عليه الأمر من مسؤوليات، يحاول كل الهرب منها. لكن، هناك خيط رفيع: أتكون إيلي هربت من حياتها وظروفها إما بالغرق أو بالانفلات بعيدا؟ إنها مخطوبة، وخطيبها يصل ليعلم ما حدث لها، في هذه الحالة: هل هروبها يبدأ منه ولا ينتهي عند الوضع الماثل اجتماعيا حولها؟
المرأة هي محور ذلك الفيلم، وهي محور «انفصال» أيضا ولو أنه يتسع لتقديم أزمة الرجل أيضا. بطلة الفيلم سيمين (ليلاحاتمي) هي امرأة أخرى هاربة وهي تطلب من القانون تسهيل هذا الهروب. فهي متزوجة بنادر (بيمان معادي)، لكنها لم تعد تستطيع تحمـل اهتمامه الزائد بأبيه المريض. المشهد الأول لهما أمام القاضي الذي لا نراه (إلا لاحقا) وكلاهما يحاول إثبات وجهة نظره. في نهاية الفيلم وبعد دخول القصـة في سلسلة عريضة من الأحداث، يتقدمان إلى القاضي من جديد. هذه المرة، القاضي يسأل الطفلة الصغيرة مع مـن تريد البقاء؟ تجيبه: معهما معا.
* مهاجرون
* يغزل فرهادي جانبا آخر من الأزمة بمهارة، متعاملا مع وضع مشرفة اجتماعية عينها الزوج لرعاية أبيه تبعا لانفصال زوجته عنه. في إحدى المرات، يعود الأب مع ابنته ليفاجأ بأن أبيه سقط أرضا بينما يده مربوطة بالسرير. أما المشرفة، فليست موجودة. تعود ونادر في ذروة غضبه وتعتذر لفعلها، كونها اضطرت للذهاب إلى المصرف، لكن نادر سوف لن يقبل اعتذارها ويأخذ منها مفتاح الشقـة ويطردها. بعد ابتعادها خطوات عن الباب تنزلق وتقع على الدرج، ويتم إبلاغ نادر بعد ذلك أنها وزوجها رفعا دعوة ضده بعدما مات الجنين نتيجة ذلك السقوط. في دعواهما أنه دفعها من على السلم، مما أسفر عن وقوعها.
لكننا شاهدنا العكس، وقدر من الفيلم يمر من دون أن يـشير أحد إلى هذه الحقيقة. ما يلي ذلك هو شغل القانون مع هذه الواقعة من دون تهميش الوضع الزوجي الصعب وأزمات ما يحدث في داخل الزوجين. تدرك أنهما قد يعودان لبعضهما البعض في أي وقت، لكن المخرج يختار، بنجاح، الطريق الأصعب وهو البحث في أبعاد ما تطرحه القصـة وفي صميم هذه الأبعاد الإحاطة الأسوارية للمرجعيات والقوانين، دينية كانت أو قضائية. نادر الذي يحتفظ بأبيه، الخادمة التي تسأل الشيخ إذا ما كان غسل عجوز حراما أو حلالا، انهيارها حين يطلب نادر، وقد وافق على دفع فدية، من المشرفة التي كانت حبلى والتي تقسم على القرآن الكريم أنها خسرت الجنين بعدما دفعها نادر على درجات السلم، ثم طبعا القانون الذي لا ينجر المخرج لإرضاء المنتقدين، فيقدم رجاله (المحقق الهادئ والصارم باباك كريمي) موضوعيا. رغم ذلك، للفيلم الكثير مما يريد قوله عن وضع محتم ومتشابك، كونه موجها.
حاول الفيلم الابتعاد عن مناهضة القوانين وإثارة النظام، لكن المسؤولين قرروا أنه فيلم معارض، وها هو المخرج يلجأ إلى فرنسا ليعيش فيها محاولا إنجاز فيلمه الجديد بتمويل بعض شركاتها. ولا ننسى أنه إلى جانب محسن مخملباف وعباس كياروستمي، فإن المخرجة الإيرانية ماريان ساترابي تحيا هناك أيضا، وهي التي سبق لها أن قدمت فيلم الأنيماشن «بيرسبولبيس» الذي أثار ما أثاره من عداء السلطات له، على أساس أنه تحدث عن آمال اندحرت مباشرة بعد ثورة الخميني، التي أيدها الشارع الإيراني فإذا بها تنقلب عليه.
ومن المخرجين الإيرانيين المهاجرين أيضا رافي بيتس الذي قدم لمهرجان «برلين» قبل عامين فيلما جيدا بعنوان «الصياد» مليء بالطروحات التي ترمز إلى هيمنة البوليس الفاسد على مقادير الناس العاديين. هذه الأصوات تنشد المعزوفة ذاتها بالتواكب مع أبو الفضل جليلي وباباك بايامي وصديق بارماك ورامين بحراني وماجد مجيدي، ومن سواهم ممن اعتبروا جنود السينما المناهضة، التي تتمنى الدولة لو أنهم كانوا منضمـين موالين (أو على الأقل صامتين) عوض محاولاتهم الدؤوبة التعبير عن الخلل الاجتماعي والسياسي الدفين في صميم الدولة والنظام الإيرانيين. آخر هذه المحاولات ليست حكرا على المخرج جعفر بناهي وفيلمه الجديد «ستائر مسدلة»، بل حوت فيلما مر للأسف من دون التقدير الذي يستحقـه وهو «بيت الأب» لكيانوش أياري الذي يتحدث عن حياة أجيال من الإيرانيين في بيت واحد يحتفظ بسر جريمة ارتكبها الأب وابنه وأثرت على حياة كل العائلة. الفيلم يتشرب رموزه الاجتماعية من دون عناء، فالبيت هو الوطن، والجريمة وقعت، والضحايا هم من أجيال مختلفة.
الشرق الأوسط 31 مارس 2013