
المخاطر التى تتعرض لها مصر منذ سنوات لم تعد خافية على أحد ، وإذا كانت الدراما التليفزيونية قد عبرت عن بعض أشكال هذه المخاطر فى مسلسل الاختيار بعد طول إهمال ، فإن هناك أيضا سبلا عديدة أخرى تم إهمالها بصورة مستمرة الى أن تلاشت تماما حتى اليوم ومنها لقاء أكبر رأس فى مصر بالمبعوثين المصريين الذى كان متبعا قبل النكسة فى المؤتمرات الخاصة بالمبعوثين التى كان يحرص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على حضورها ومعه كل أجهزة الحكومة .. العسكرية والمدنية .. ليضع الحكومة والأجهزة التابعة لها أمام مسؤولياتها تجاه صناع مستقبل مصر .. وأيضا لكى لا يترك نفس صناع المستقبل فريسة لما قد يتعرضون له من أفكار وإتجاهات وأحيانا مغريات تؤدى الى انفصالهم عن الوطن ، تلك المؤتمرات التى كان يتم بثها على الهواء مباشرة ليعرف المبعوثين الحقائق من خلال أكبر رأس فى مصر وأيضا ليعرف أهل مصر أحلام وآمال وأحوال أولادهم فى الخارج..
كان آخر لقاء للرئيس عبد الناصر بالمبعوثين فى الأسكندرية قبل النكسة عام 1966 وأظن أن النكسة وحدها هى التى منعت استمرار هذا اللقاء رغم أن آخر لقاء لم يكن فى مجمله محققا للآمال عندما ظهر فيه أن معظم اهتمامات الحضور من بلاد الدنيا المختلفة كان منصبا على طلب زيادة المرتبات والبدلات وطلب الحصول على الجرائد والمجلات ومشاكل المبعوث مع السفارة والمستشار أوالملحق الثقافى الموظف بالواسطة أحيانا بالإضافة الى النفاق المعتاد لصاحب السلطة الأكبر فى مصر .. ومع ذلك الثابت هو أن هذا التقليد قد انتهى مع تولى الرئيس السادات الحكم واستمر كذلك فى عهد الرئيس حسنى مبارك وحتى اليوم ..
شهد هذا اللقاء الأخير عام 1966 أحد مراحل مأساة مبعوث مصرى كان قد تم سحب جنسيته بعد تطوع أحد الوشاة بكتابة عدة تقارير سلبية فى حقه تم الأخذ بها دون أن يكون هناك دليلا على صحتها ، وكانت النتيجة سحب الجنسية من الدكتور الشاب النابه وقتها ، كل ذلك لم يشف غليل الواشى الذى انتهز فرصة اللقاء مع الرئيس فى مؤتمر المبعوثين بالأسكندرية عام 66 عندما جاء دوره فى الحديث ليفاجىء الجميع والرئيس نفسه بعد وصلة نفاق بقوله :
( هناك بعض المرتزقة، ومنهم واحد من المصريين اللى اتمنعت عنه الجنسية ويمكن سيادتك متذكره شخصياً – اسمه عبد المنعم مختار – وأرسل لسيادتك ١٠، ١٢ خطاب شتيمة وأشياء أخرى، وسيادتك حولتهم لنا فى بودابست.(
وكانت النتيجة أن الدكتور عبد المنعم مختار الذى كان قد أصبح بلا وطن فى ذلك الوقت عليه يعيش هو وزوجته وأولاده على راتب ضئيل لمحاضر فى أحد أكبر الجامعات هناك .. و.. استمر به الحال كذلك الى أن فتح الله عليه بالعمل فى إحدى الجامعات العربية التى تصرف عليها دولة خليجية مشهود لها بالكرم .. مع الشعوب .. دون أى مقابل سياسى ، وكأن الله أراد تعويضه عن سنوات الكفاف والشقة التى لا تدخلها شمس فى الدور الأرضى فى أحد البيوت الموروثة من القرن التاسع عشر ..
بعد سنوات العذاب ظهرت حقيقة الوشاية التى لم يكن لها أساس من الصدق فأعاد له الرئيس السادات فى السبعينيات الحياة بإعادة الجنسية المسحوبة فأصبح له وطن .. سارع الرجل بالعودة بزوجته وأطفاله الى روض الفرج فى مصر للقاء أهله وتعريفهم على أسرته وأطفاله الذين لم تتح لهم الظروف معرفتهم أو رؤيتهم من قبل .. وكانت المفاجأة .. لا وجود لهم أو للمنزل الذى ولد وعاش فيه طفولته بعد وفاة من أتى من أجلهم .. فعاد من حيث أتى لتكتمل نكباته بموت ابنه الأكبر فى حادث عبثى .. ويضعف بصره حزنا عليه..
لم أكن أعرف الدكتور عبد المنعم مختار ومأساته قبل ثناء المستشرق المجرى العالم الكبير عبد الكريم جرمانوس والسيدة عائشة زوجته عليه وأحاديث صديقى ابن المنصورة النبيل الدكتور فاروق شعبان زميل المعهد والأكاديمية الذى سبقنى بسنوات فى البعثة هناك وطلبت منه مقابلته .. وفى الطريق الى منزله قلت لفاروق أتمنى أن لا تكون مآسيه قد حولته الى وحش ناقم على مصر وأهلها أو العكس أى حولته الى حطام انسان .. يومها ابتسم فاروق تاركا الأمر لتقديرى الشخصى ..
استقبلنا الرجل وأسرته بترحاب كبير وهو يتوكأ على عصاه التى لازمته بعد أن صدمه موتوسيكل فى اليمن أثناء عمله فى جامعتها ، وحمدت الله كثيرا أنه لم يكن وحشا أو حطاما بل كان انسانا متحضرا بالغ الرقى يحمل كل صفات إبن بلد ومن روض الفرج ورغم محاولاتى حثه على الحديث عن مآسيه لم يخرج الحديث عن الاجابة على اسئلته عن مصر وشوارعها وأهلها مع جولة فى أرجاء بيته الجميل المزين بأوراق البردى و(سوفينير) البازارات من التماثيل الفرعونية الصغيرة والأهرامات الرخامية والأطباق النحاسية المحفورة بأشكال فرعونية وركن أشبه بجزء من مقهى الفيشاوى مع تلال الكتب العربية والأجنبية التى لا يكاد يخلو منها حائط فى البيت ولا غرابة فى ذلك فالرجل أستاذ تاريخ العصور الوسطى .. وعاش ظلامها وظلمها فى حياته بسبب وشاية ثبت كذبها .. وكثرت أحاديثنا عن أبحاثه التى أهدانى بعضها فى لقاءاتنا فى بيته بعد أن ضعف بصره وقلت حركته التى لم يقاومها إلا لحضور مناقشة رسالتى ، والى أن سافرت لم تكن اجابته غير .. سلم لى على مصر .. و.. منهم لله ..
بعد عدة سنوات ذهبت الى بودابست مع وفد من البيت الفنى للفنون الشعبية حدثتهم عنه فأصر بعضهم ومنهم الفنان الشعبى القناوى الكبير على زيارته معى فطلبت الانتظار الى أن أستأذنه فى ذلك وبالفعل زرته بمفردى فى اليوم الأول.. كان على نفس الحال الذى تركته عليه وان كانت قد قلت حركته وقدرته على الإبصار ، و فى اليوم التالى ارتدى عدد كبير من الفرقة الشعبية أجمل ثيابهم وكان لهم معه لقاء أهل وأصدقاء من زمن بعيد وليس أول وآخر لقاء وكم كان سعيدا بمصر الشعبية وبهداياهم الرمزية من نماذج الآلات الموسيقية البسيطة وعندما اعتذر عن حضور العرض الذى يقدمونه فى أحد مسارح بودابست فاجأتنا الفرقة باخراج آلاتهم من (سيالة الجلبات البلدى) وهات عزف وغناء بعض الإغنيات الشعبية ، يومها شاهد الجيران ما لن يتم نسيانه .. عزف وغناء والأهم .. دموع الفرقة والأستاذ الكبير الذى يحتفى به من يعرفون قدره من أبناء بلده ..
و .. بالطبع لا أمل فى أن يعتذر الواشى عن جريمته بعد كل هذا الزمن الطويل ، ليس فقط لأنه لا جدوى أو أهمية لهذا الاعتذار فضلا عن استحالة استيقاظ ضميره ، يبقى الأمل فى الدكتور علاء عبد الهادى رئيس اتحاد الكتاب خريج نفس الجامعة التى ينتمى اليها الدكتور عبد المنعم مختار الذى يعتبر من أوائل المبعوثين المصريين هناك ، فهل يقوم بالسؤال عنه والعمل على نشر أبحاثه فى مصر و.. تكريمه هناك فى .. بودابست .. ؟
على الأقل الى أن يعود مؤتمر لقاء رئيس مصر بأبنائها المبعوثين فى الخارج بعد تنقيته من شوائب الماضى ووشاته ..
الجارديان2020-05-27