
كتابه (وجها الحياة( دليل ميسر لمبدع الربيع العربي
الرباط – حكيم عنكر:
يمكن اعتبار كتاب (وجها الحياة، خطاب السويد، رسائل إلى شاب ألماني) للكاتب الفرنسي، جزائري المولد، ألبير كامي، كتاباً استبطانياً يجيب عن أسئلة اللحظة الراهنة، وبالأخص تلك المتعلقة بدور المثقف في المجتمع، وعلاقة النخب بالسلطة، ومفاهيم الالتزام والحرية والارتباط العضوي بالجماهير، والأدب الحقيقي والأدب المزيف .
وهو بذلك يقدم الإجابات للكاتب العربي، الحائر اليوم، بين الارتماء في أحضان السلطة، وبين الإنصات لنبض الشارع، ويمنحه الوصفة السحرية لتجاوز العقبات التي يمكن أن تعترضه، في القيام بدوره، ككاتب وكمثقف، وفي البقاء على مسافة واضحة من التأثيرات السلبية التي تحرفه عن دوره الحقيقي .
ينطلق (كامي( من يقين ثابت يصوغه على الشكل التالي: (أنا لا أستطيع شخصياً أن أعيش بلا فني، ولكني لم أضع هذا الفن فوق كل شيء . وعلى العكس، ضروري لي لأنه لا ينفصل عن الناس ويمكنني من العيش، كما أنا على مستوى الجميع).
وهو يعتبر أن الفن ليس متعة منعزلة، بل أداة لتحريك أكبر عدد من البشر، وبالتالي فهو يدفع الكاتب إلى البقاء دوماً ضمن دائرة المجتمع، وإلى عدم الانعزال .
ويقدم (كامي( النصيحة التالية: (إن الفنان يصنع نفسه في هذا الانتقال الدائم بين ذاته والآخرين، على منتصف الطريق بين الجمال الذي لا غنى له عنه، والمجتمع الذي لا يستطيع انتزاع نفسه منه) .
ولهذا فإن الفنان الحقيقي، حسب كامي، لا يحتقر شيئاً، بل يرغم نفسه على الفهم عوض أن يعطي أحكاماً . يقول: (حتى إذا اتخذ جانباً يتحزب له في هذا العالم، كان هذا الجانب مجتمعاً لا يسود فيه، كما يقول نيتشه العظيم، القاضي وإنما المبدع، عاملاً كان أم مفكراً) .
فما هو دور الكاتب؟ يجيب (كامي( عن هذا السؤال الصعب: (إن دور الكاتب لا ينفصل عن الواجبات الصعبة، إنه لا يمكن له بالضرورة أن يكون اليوم إلى جانب صانعي التاريخ، إنه في خدمة الذين يرزحون تحتهم، وإلا كان وحيداً مجرداً من فنه . إن كل جيوش الطغيان بملايينها البشرية لا تقوى على انتزاعه من عزلته حتى لو وافق على أن يسير على خطواتها) .
ويقدم (كامي( هذه الاستعارة لمن يريد أن يفهم أكثر (إن صمت سجين مجهول أسلم إلى الإهانة في آخر العالم يكفي لأن يكتشف الكاتب من منفاه، وهو الذي يرفل بامتيازات الحرية، كلما استطاع ألا ينسى ذلك الصمت، فيذيع صداه بوسائل الفن( .
لا يمكن أن يقوم الكاتب أو الفنان، مهما كانا، بدور حاسم في المجتمع إذا لم تكن المنارة التي تنير طريقهما هي خدمة الحقيقة وخدمة الحرية . هكذا يعتقد (كامي) أن على المبدع أن يقبل بلعب هذا الدور، فرسالته في الحقيقة أن يجمع حوله أكبر قدر من البشر، وبالتالي لا يمكن لهذه الرسالة، حسب (كامي(، أن تنسجم مع الكذب أو الاستعباد اللذين إذا سادا مكاناً ازداد فيه عدد المنعزلين .
لا يمكن، والحالة هذه، أن يكون الكاتب عبداً أو قناً أو فاتورة يمكن أن تدفع بدلاً عنه ويخرس إلى الأبد، ولا يمكن أن يلعب دور (فاوست) الذي باع روحه للشيطان . إذا باع الكاتب روحه وفنه لمن يدفع أكثر وللطغيان فإنه يكون قد حكم على رسالته بالفشل، وعلى نفسه بالموت، حتى وإن ظل على قيد الحياة، حينذاك لن ينتج إلا أدباً مزيفاً .
يسوق (كامي ( تجربته الشخصية في الحياة والكتابة، لاستخلاص الدروس . يقول: (كنت خلال عشرين سنة من تاريخ معتوه ضائعاً كبقية أبناء جيلي، بلا سند تجاه تقلبات الزمن، ولا يجعلني أتماسك عبر شعور غامض بأن الكتابة في هذه الأيام هي شرف، لأنها ملزمة، ملزمة في ألا يكتفي الإنسان بالكتابة . وقد ألزمني هذا الشرف بشكل خاص أن أحمل، وأنا على ما أنا عليه، وبمقدار ما تمكنني قواي، الشقاء والأمل اللذين نشترك فيهما، وأعني الناس الذين ولدوا في مطلع الحرب العالمية الأولى، والذين بلغوا العشرين عندما وصلت إلى الحكم السلطات الهتلرية وجرت أولى المحاكمات الثورية، والذين واجهوا في ما بعد، وكأنما لتتم ثقافتهم، حرب إسبانيا والحرب العالمية الثانية، وعالم المتسلطين وأوروبا والتعذيب والسجون، والذين عليهم الآن أن ينشئوا أبناءهم وأعمالهم في عالم يهدده الخراب الذري) .
ما موقف الكاتب المغربي خاصة، والكاتب العربي عامة، من هذا الكلام؟ ألا يواجه هذا الكاتب اليوم في عالم عربي مفتوح على كل التحولات ما واجهه جيل (ألبير كامي) في تلك العقود الصعبة التي عصفت بالبشر في أوروبا الحربين، وفي ظل الخطر النووي، الذي يزداد في عالم اليوم أكثر وينذر بحدوث الفناء الأعظم؟
ماذا على المثقف المستكين أن يفعله؟ وكيف يمكنه أن يخرج من حالة التوهان التي يعيشها من دون أن يتمكن من القيام بدوره كاملاً تجاه نفسه وتجاه مجتمعه، دور هو بالأساس أخلاقي بالدرجة الأولى في ظل حالة التردي الشامل الذي يعيشه عالم عربي متخلف ويرزح تحت الاستبداد .
نجد في كتاب (وجها الحياة(، الذي يمكن اعتباره كتاباً للمقاومة، جواباً أيسر . يكتب كامي (لكن الكثيرين منا، في بلادي وفي أوروبا، رفضوا العدمية ونهضوا للبحث عن مشروعية جديدة، فجاهدوا في خلق فن للحياة في زمن النكبة، كيما يولدوا مرة أخرى، ثم ليناضلوا بكل قواهم ضد غريزة الموت التي تفعل فعلها في تاريخنا( .
وما أشبه اليوم بالبارحة، وكان هذا الكاتب كان يوجه رسالته إلى الأجيال القادمة، وربما بسبب أن الدماء الجزائرية تجري في عروقه، كان يعرف جيداً أن الشعوب الأخرى ستعيش المصير نفسه .
يرسم (كامي( ملامح البداية حين يدعو الجيل الجديد إلى تجديد الذات، معولاً على طاقة الرفض لأنها هي التي تصنع الأفكار والرجال والمجتمعات، وهي التي تسهم في خلق التحول . هي بشكل موجز طاقة كل تحول وكل تجديد وكل أفق محتمل . ويضع الكاتب الحقيقي في صورة ما يجب أن يكونه (إنه عندما تحدثت عن نبل مهنة الكتابة، فقد وضعت الكاتب في مكانه الحقيقي لأنه ليس له من ألقاب، إلا التي يشترك فيها مع رفاقه في الكفاح، فهو ضعيف ولكنه عنيد، وهو ظالم ولكنه يعشق العدالة، يبني عمله من دون خجل أو غرور تجاه الجميع، مقسم دائماً بين الألم والجمال( .
طبعاً، الكاتب، حسب (كامي(، ليس داعياً إلى الفضيلة ولا ينبغي له ذلك، لكنه في الوقت نفسه لا يمكن أن يبقى بعيداً عن مجريات مجتمعه، منعزلاً أو غير مكترث بما يحدث حواليه .
وهذا لا يعني أبداً أن يكون الفنان أو الكاتب ملتزماً . وفي هذا الصدد يطرح (كامي) بديلاً آخر عن هذا المصطلح، فبدل الالتزام هناك (الارتباط(، وهو يعتبر في هذا الصدد بأن لفظ (مرتبط( أصدق من (ملتزم(، فالقضية بالنسبة للمبدع ليست قضية التزام، ولكنها كما يقول (كامي) (خدمة عسكرية إجبارية( .
والنتيجة أن (كل فنان اليوم مرتبط بسفينة عصره، مضطراً لأن يقبلها حتى لو رأى أن هذه السفينة تعج برائحة النارنج وأن السجانين فيها كثر، حتى لو كان الاتجاه زيادة في الأمر خاطئاً . نحن في عرض البحر وعلى الفنان أن يجدف كالآخرين من دون أن يموت إذا استطاع، وأعني أن يستمر بالحياة والإبداع( .
وهذا يعني أن يتحول الكاتب من وضع المتفرج إلى وضع المشارك، وأن يصبح جزءاً من حركية المجتمع . ويوضح (كامي( الأمر على الشكل التالي: (إن الكاتب في السابق مثل المغني الذي يغني على الدرج في سيرك كبير، وهو في أحسن الحالات إما أنه يشجع الشهيد أو يلهي الأسد قليلاً عن شهيته في الأكل( . أما الآن، فيقول (كامي(، على العكس، (يجد الفنان نفسه في حومة السيرك وصوته لم يعد كما كان في السابق . إنه الآن يتعرض للخطر( .
الخليج22/04/2013