أ.د. حمدى الجابرى
خلال ما يقرب من أربعين سنة أو أكثر لامست عن قرب مدى أهمية موضوع بحث العرب عن هويتهم الذى يستغرق بحثه كل هذا العدد من السنين الطوال دون التوصل الى أى نتيجة من أى نوع، فلا التراث استفاد وانتشر الايمان بأهميته ولا المسرح استفاد من التراث فى تحقيق تنوير حقيقى للمشاهد العربى أو كسب المسرح مساحة أكبر لدى المشاهدين الذين انصرفوا عن المسرح فى شكله التراثى العربى الملامح أو الغربى التقليدى أو التجريبى ، وقد قضيت كل هذه السنين مشاركا ومشاهدا ومعقبا على كثير من ندوات وأبحاث تتعلق بالبحث حول التراث والمسرح فى العالم العربى ، ومع ذلك لم أجد تغييرا يذكر يمكن الوقوف عنده ، خاصة فى القضية المثارة دائما حول التراث والمسرح ، ذلك رغم الجهود الكبيرة والهامة والمقدرة التى بذلها أصحاب الأسماء الأكبر فى الثقافة والمسرح العربى .. ورغم ذلك عاد العرب لممارسة هوايتهم فى البحث عن ” هويتهم ” فى ندوات مهرجان المسرح الخليجى العاشر بالدوحة ..
وبعيدا عن الندوات والمؤتمرات والملتقيات الخاصة بالتراث والمسرح ، تركزت الجهود ما بين بحوث ومقالات نظرية قام بها كثير من النقاد والمفكرين ، وعملية قام بها كثير من المؤلفين والمخرجين وبعضهم قدم تفسيرا نظريا أو مقدمات لأعماله المتعلقة بالتراث والهوية والخصوصية وغيرها من أبرزهم توفيق الحكيم وقالبنا المسرحى ويوسف ادريس ونحو مسرح عربى وسعد الله ونوس وبياناته والطيب الصديقى وعروضه وعبد الكريم برشيد واحتفاليته وغيرهم ..
والحقيقة التى يجب الاعتراف بها هى أنه رغم ذلك كله ، لم يكتب النجاح أو الاستمرار لهذه الجهود ، كما لم تثمر عن إتجاه أو مدرسة أو تيار قادر على الصمود من أجل تحقيق ، كل أو بعض ، هذه الأهداف النبيلة التى تصدرت دائما كل تنظير أو عرض ، وكأنها جميعا مجرد جزر منعزلة لا رابط بينها رغم كل الادعاءات عن الوحدة والقومية والهوية والمصالح واللغة المشتركة وغيرها ، ولذلك لم يكن غريبا أن نعود من جديد فى الدوحة لنسمع عن إعادة طرح موضوع التراث والمسرح للنقاش وتظهر اسماء جديدة تشارك مع الأسماء القديمة لتقديم نفس ما سبق طرحه نظريا وعمليا ، وهو ما قد يعنى أن يستمر الأمر الى الأبد ..
وهنا قد يكون من المفيد الإشارة الى حقيقة أن معظم الأشكال الشعبية التى تشكل مكونات ومفردات التراث العربى تتم ممارستها ومنذ سنوات طويلة دون حاجة الى ندوات أوتنظير ، ومعظمها يعتمد على الفنان التلقائى الذى قد يتوارث المهنة أبا عن جد وأحيانا دون أو يقرأ حرفا واحدا مما يكتب ، وقد يكون أميا لا يعرف القراءة والكتابة أصلا ، ويستمر فى مسيرته بتقديم فنه المتوارث فى القرى والنجوع والأحياء الشعبية ، تماما كما تستمر البحوث والندوات حول نفس الموضوع ، دون أن يلتقيا لينير كل منهما الطريق للآخر فى معظم الأحيان ..
وأحيانا ما يستعين بعض المسرحيين بالفنان الشعبى فى عرضه المسرحى تنفيذا لما يؤمن به من أهمية مفردات التراث لإثراء العمل الفنى أو لتحقيق أفكاره حول التراث والمسرح وهو أمر محمود اذا ما كان منهجا يتم الالتزام به لنشر ما يؤمن به من أفكار حول هذه المقولات الكبرى ، وفى أحيان أخرى يتم تقديمه كزخرف أو حلية للعمل وهو أمر يمكن قبوله لكى تصبح الصورة المسرحية أكثر جمالا وقدرة على التأثير فى المشاهد الذى قد ينصرف عن المسرح لإغراقه فى المعميات التى تسمى تجريبا مرة ورمزا مرات أخرى دون الإعتراف بتأثيرها المدمر على المشاهد الذى يقابل هذا التجاهل لحاجته الحقيقية من الفن المسرحى بالإنصراف عن تجريبهم ورمزهم فأصبحت العروض مهما كانت مسمياته تقدم للكراسى الخالية فى معظم الأحيان أو على الأقل لا يشاهدها إلا بعض أصحاب التجريب والرمز والمعميات المسرحية ، وهذا أيضا قد أدى الى معاناة الفنان الذى يحمل على كاهله تراث الأجداد فعلا لا قول أو تزينا ، ولا فرق فى ذلك بين عازف أو مغنى أو حتى مداح ، وفى كل الحالات يظل الفنان الشعبى وحيدا غريبا يتمنى انتهاء هذا العرض المسرحى أوالكرنفال الذى يشارك فيه مرغما من أجل لقمة العيش ليعود الى أصله أى متلقيه ومشاهده الحقيقى الذى ينتظره فى مكانه الأصلى فى القرية أو الحى الشعبى ، ذلك المشاهد الذى قد لا يعلم أصلا بوجود فن آخر يسمى ” المسرح” الذى يحاول حرمانه من الفن الوحيد الذى يعرفه ويستمتع به فى القرية أو النجع أو الصحراء وهو وسيلة التسلية والترفيه والتعليم التى ورثها عن أجداده !!
المشكلة متعددة الجوانب ، ولا يمكن الإحاطة بها أو علاجها بنفس الأسلوب التقليدى المتبع منذ سنوات ، وربما تكون بداية الطريق للوصول الى ما يرضى جميع الأطراف ، وحتى لا ندور فى نفس الدائرة لسنوات كثيرة مقبلة ، يمكن لإدارة مهرجان المسرح الخليجى أو اللجنة الدائمة للمسرح أو أى مهرجان مسرحى عربى مهما كان مسماه ، البدء فى ” تجميع ” ما توصلت اليه البحوث النظرية حول الموضوع فى الندوات والملتقيات السابقة ، وكلها على قدر كبير من الأهمية ، ثم توزيعها على أكبر عدد ممكن من الباحثين والدارسين والمخرجين فى الوطن العربى ليقدم كل منهم مقترحاته حول آلية تفعيل بعض أو كل هذه التوصيات ، ليكون الملتقى القادم لبحث ما تم إنجازه وما لم ينجز وأسباب ذلك وأسلوب التغلب عليه ، هذا إذا ما أردنا فعلا الوصول الى نتائج مثمرة ومفيدة على المستويين النظرى والعملى ، وحتى لا تضيع سنوات أخرى فى بحث نفس الموضوع من جديد ..
تبقى الإشارة الى أن العودة الى الحديث عن التراث والمسرح كثيرا ما تتجدد مع الهزائم الفعلية التى يتعرض لها المسرح بانصراف الناس عنه ، والوطن ذاته على المستوى الأعم فى بعض الأحيان ، واستمرار نفس الأمر من ملتقيات وبحوث ومسرح بلا جمهور يعنى أن المرض مزمن والأمل فى الشفاء منه ممكن فقط بالاعتراف به تمهيدا للعلاج ، وهو ما اعتقد أنه من الضرورى البدء به حتى لا يتم الاستسلام للمرض الأكبر أو الهزيمة الأعم على مستوى الوطن الكبير ..
هذا ومن الطريف ذكر أن بعض ما تم ذكره قد تم نشره فى النشرة اليومية لمهرجان الدوحة للمسرح الخليجى الأخيرة ، وكالعادة فى المهرجانات المسرحية دارت بعض المناقشات حولها واستحسنها وأكدها كثير من الحضور وأعلنوا عن ذلك خلال الندوات الخاصة بالبحث عن الهوية والتراث والمسرح فى الدوحة بصورة جعلتنى أظن أن المسرح العربى كله سيصبح بخير وتمنيت على الحضور من المبدعين ومعظمهم من أبنائى أن يترجموا اعجابهم هذا بتقديم ما هو أكثر من الاستحسان والتنظير والكلام وهو العروض المسرحية التى يمكن أن تشكل تيارا عمليا يؤكد حقيقة الهوية والتراث والمسرح أكثر من كل الكلام الذى تم تداوله منذ سنوات طويلة وسيتم الى ما شاء الله إذا ما اقتصر الأمر على استهلاك العمر فى الكلام وحده .. ولا اعتقد أن هذا سوف يحدث وسيكون اللقاء القادم فى المهرجان المقبل كل عام هو البحث عن الهوية والتراث والمسرح .. ربما ببساطة لأننا لا نقدر أحيانا على تقديم ما هو أكثر من الكلام .. عن المسرح والهوية والتراث !!
د. حمدى الجابرى