
خالد رسلان
سنتعرض بالتحليل لإحدى التجارب الأولى المهمة التي تم توثيقها لمسرح الشارع في مصر بعد ثورة يناير بأيام قليلة، والمتمثلة في عرض) عودة الفلاح الفصيح)والذي قدمته فرقة السويس لمسرح الشارع، إخراج محمد الجنايني، وتأليف أحمد أبو سمرة، وقد اخترنا تلك التجربة نظرا لخصوصية الفرقة التي تقدمها في تيار الطليعة المصرية.
تظهر تلك الخصوصية في نقطتين جوهريتين، الأولى متمثلة في مكان نشأتها – السويس- التي كانت بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت الثورة المصرية، أما الثانية ريادتها وأسبقيتها في تقديم عروض الشارع، فقد فتحت الآفاق نحو مسرح الشارع بشكله المعاصر الراديكالي، حيث بدأت عملها في أوائل التسعينيات من خلال عرض ) زعبوبة في مهب الريح) الذي تناول المشكلات التي يتعرض لها المواطن السويسي، وتعرضه للقهر من الأجهزة الأمنية، وقد تسبب هذا العرض في اعتقال المخرج محمد الجنايني، وإصدار قرار مفاده منع الفرقة من تقديم عروضها في الشارع، إلا أن الفرقة أصرت على استكمال مشروعها الفني، وهو ما نتج عنه مواجهات شرسة مع رجال الشرطة. وقد تنوعت عروضها ما بين أعمال تناقش الهم العام وقضايا المواطن والمجتمع، إضافة إلى أزمات المبدعين مع المؤسسة الثقافية. وكان عرض المحرقة من أهم العروض التي قدمتها الفرقة، والذي تناول حادثة محرقة مسرح بني سويف والتي تسببت في فقدان كوادر مهمة في الحركة المسرحية، وتم فيه نقد النظام القائم بصورة لم يشهدها المسرح المصري من قبل، وقد قدم العرض عام 2005 في القاهرة في منطقة وسط البلد وسط احتجاجات الفنانين العنيفة، وهو ما نتج عنه كالعادة ملاحقة الفرقة من الأجهزة الأمنية.
منذ ذلك الحين لم تغب فرقة السويس عن المشهد واستمرت على طابعها الراديكالي في الشارع، ذلك الفضاء الذي عُدَّ رمزًا للحرية خارج نطاق المؤسسة الرسمية، فقد استطاع هؤلاء الفنانون من خلال دائرة صغيرة بدأت في ميدان الأربعين أن يهزوا أركان نظام بالكامل. حتى جاءت ثورة يناير 2011 التي أوجدت لهم المناخ الخصب لتقديم عروضهم الفنية، ونتناول أحدهم المتمثل في مسرحية )عودة الفلاح الفصيح).
وتدور أحداث العرض في حبكته البسيطة حول هنداوي؛ ذلك الفلاح الفصيح بشكله المعاصر الذي يبحث عن زوجته حورية التي فقدها في القاهرة بعد أن ترك قريته الصغيرة، وأثناء رحلة البحث يشارك الجمهور شكواه واحتجاجه ضد الظلم والقمع، لتتحول حورية إلى الحرية المفقودة والتي يسعى الجميع إلى البحث عنها، ويتم ذلك عبر مجموعة من المشاهد التمثيلية القصيرة التي تناقش عددًا من القضايا التي تسببت في فقدان الحرية مثل (الانقسام بين التيارات المختلفة – غياب الدستور الذي يوفر العدالة الاجتماعية – حكم العسكر – سطوة تيارات الإسلام السياسي على عقول البسطاء)، ويقوم الممثلون بطرح تلك القضايا عن طريق مناقشتها مع جمهور المتلقين لإيجاد حلول لها، لينتهي العرض بعودة حورية/حرية داخل هذا العالم المتخيل المتشابك مع الواقع الفعلي، بعد اكتساب الوعي الذي تمخض عنه تظاهرة مطالبة بمدنية الدولة وحقوق المشاركة في صياغة الدستور من جميع أطياف المجتمع لتحقيق شعارات الثورة الثلاثة (عيش- حرية – عدالة اجتماعية(.
ومن خلال حبكة العرض نستطيع تلمس النضج الفني الذي يتسم به؛ حيث لم يقع في المباشرة أو شعار )انظر خلفك في غضب)، الذي غالبا ما تقع فيه الأعمال الفنية التي تواكب هذا السياق التاريخي- أو ما يشابهه– وتكون فريسة سهلة له. فالعرض يحاول رصد تناقضات الواقع بين شعارات معلنة، وممارسة فعلية أفرزت صراعات وانقسامات بين تيارات المجتمع المختلفة، لهذا حاول العرض أن يعيد صياغة مبدأ التنوع داخل الوحدة، وهو أحد المبادئ الرئيسية التي اتكأ عليها المشروع القومي المصري لسنوات طويلة، من خلال تعدد الأصوات الإيديولوجية التي تتجسد في الشخصيات الدرامية ويتشابك معها الجمهور – بالسلب أو بالإيجاب – وعمل جدل بينها لإذابة تناقضاتها الثانوية لصالح هدف يوحد كافة الأطياف . فالممثلين يقتحمون فضاء الميدان ويبدأون في جذب الجمهور إليهم دون أي اتفاق مسبق بأغاني المقاومة والأغاني السويسية الشعبية ، وفي ذروة تفاعل الجمهور معهم من خلال ترديد الأغاني التي تشعرنا بالحنين إلى الماضي، تبدأ فعاليات العرض الذي يحاول أن ينفذ إلى الواقع، ويراهن على أنه سيجد من يتفاعل معه ويشاركه اللعبة في البحث عن الحرية مع هنداوي الذي تذوب داخله صورتي مصر الفرعونية ومصر الحديثة، عبر فنون الأداء الشعبي المختلفة الجامعة لكل ثقافات المجتمع المصري في بوتقة واحدة ، فعدودة الصعيدي تتجاور مع الغناء السواحلي (يا حمام بتنوح ليه؟) ، واستخدام الزار لطرد أرواح السلطة الدكتاتورية عن حكم هذا الشعب تتجاور مع مولد سيدي الغريب وإيقاعات الذكر. كل ذلك يواجه الواقع المؤلم ليتفجر الأمل في النهاية.
وقد أظهر المخرج محمد الجنايني في هذا العرض وعيًا شديدًا بتقنيات مسرح الشارع، بداية من الصياغة البصرية التي شكلتها الحركة المسرحية المصممة للعرض في شكل حلقة أو دائرة يحيطها الجمهور من جميع الجهات، فأيًا كان موقعك من الدائرة فإنه يمكنك مشاهدة العرض والاستمتاع بجمالياته التي استمدها المصمم من جماليات الاحتفاليات الشعبية وفنون السيرك، وصولا إلى تدريب الممثل بمنطق المشخصاتي الشعبي التلقائي، الذي ينتقل من الغناء إلى الرقص إلى التقمص التمثيلي بيسر وسهولة تساعد إيقاع العرض في التدفق عبر استمتاع الجمهور وانتباهه ومشاركته، إضافة إلى منطق الارتجال الذي اعتمد عليه التمثيل في بعض المشاهد التي تسمح بمشاركة قطاعات من الجمهور في إبداء الرأي من خارج مساحة التمثيل والتي تؤثر في مسار الحبكة في كثير من الأحيان، لنصبح أمام بنية مفتوحة متحررة من أي خطاب مهيمن، أو مفترض مسبقا من قبل المخرج أو المؤلف.
14نوفمبر 2014